قد يكون ما يمرّ به لبنان أزمة ثقة أكثر منه أزمة اجتماعية. علماً أنّ العامل الاجتماعي والاملاءات الضريبية، التي وصلت الى حد لم يعد أحد يتحمّلها هي التي أشعلت هذه الشرارة.
قد تؤدّي أزمة الثقة هذه الى بقاء الناس في الشارع، ولا سيما أنّهم لا يثقون بالمسؤولين ولا بسيرة المسؤولين ولا كيف تعاطوا مع الشأن العام منذ سنة 1990 لغاية الآن. قد لا تكون البنود التي سردها رئيس الحكومة كافية، ولا هي تفي بالغرض المطلوب وما زالت مبهمة، ولا سيما في ما يخصّ المجالس والمؤسسات والدمج والأملاك البحرية. وقد نحتاج الى نوع من التغيير في سبيل امتصاص النقمة العارمة.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل أنّ السياسيين لا يقرأون أو انّهم إبتعدوا بشكل كبير عمّا يتخبّط به المجتمع، فما عادوا يحسّون بنبض الشارع؟ وقد نبّهنا منذ اصدار موازنة 2019 الى أنّها غير كافية ومجتزأة ولا تفي بالغرض المطلوب.
وفي سحر ساحر جاءت موازنة 2020 بصفر عجز، ولكنه أمر عرضي لا يمكنه أن يبقى كذلك، ألّا ضمن خطوات أصلاحية جذرية تعكس جدّية في التنفيذ. والمبهم في كلام رئيس الحكومة هي الفترات الزمنية.
والسؤال، من يراقب تطبيق هذه الاصلاحات ومن يحاسب على التنفيذ وفق الروزنانة الزمنية؟ اذا تكرّرت الاخطاء سيعيدون الوضع الى ما كان عليه، وينزل الشعب مرة ثانية ليطالب بلقمة العيش.
ومن تجمّع ونادى بالثورة ليس سوى المجتمع المدني، والذي هُمّش في جميع قرارات الدولة، ولا سيما غيابه المطلق في دعوة الأحزاب الى بعبدا للبحث في اصلاحات يجب السير بها. فجاءهم المجتمع المدني ليثور عليهم. والسبب الأساس كما سبق وذكرنا هو انعدام الثقة بين هذا المجتمع والطقم السياسي الذي لم يستطع قراءة الأحداث، وإلاّ لكان رأى أنّ التظاهرات آتية لا محالة، وأنّ فرض الضرائب دون مقابل لا يمكنه أن يمرّ مرور الكرام.
هذا هو أكبر احتجاج. المطلوب خطوات كبيرة وبعيدة المنال. والسياسيون ما زالوا يراهنون على صبر الشعب، ويستخدمون موارد الدولة لأغراض سياسية، ويتردّدون في التنازل عن صلاحياتهم.
والأسباب التي أشعلت نيران الأزمة تضاعفت بفعل تباطؤ تدفقات رؤوس الأموال الى لبنان، أضف الى ذلك الضغوط التي برزت أخيراً في الاقتصاد الحقيقي، حيث أنّ المستوردين لم يتمكنوا من الحصول على دولار في الأسواق لتسيير أعمالهم، ولم تستطع الدولة اقناع المانحين الأجانب، والذين لن يقدّموا المساعدات ما لم تحدث تغييرات واصلاحات جذرية. والأهم أننا هنا أمام واقع يحاول السياسيون الخروج منه، ويتمثّل بالحقائق التالية:
1- ثورة الشعب التي طال انتظارها.
2- اقناع الدول المانحة بقدرتهم وجدّيتهم في احداث التغيير.
3- تماسك الحكومة وقدرتها على السير بالاصلاحات.
لذلك لا بدّ من القول إنّ استهتار الطبقة الحاكمة والصراعات السياسية أضعفا البلد، مما يؤدي الى المزيد من عدم اليقين والخطر المتعاظم.
وبالعودة الى الورقة التي عرضها رئيس الحكومة والتي قرأناها بتمعّن، فهي تبدو ناقصة غير كاملة او على الاقل مبهمة ولا سيما من ناحية دمج الوزارات وبعض المؤسسات. بلد مثل لبنان لا يحتاج الى ثلاثين وزارة.
وفي كل مرة ومع كل حكومة نخترع وزارة جديدة لإرضاء بعض الافرقاء ويسمّونها حكومة وحدة وطنية. فوزارة التكنولوجيا ووزارة المرأة ووزارة شؤون رئاسة الجمهورية، كلها وزارات جديدة دون جدوى ومنفعة.
وللعلم، لقد أغفلوا العديد من المؤسسات والصناديق، كصندوق الاغاثة ومصلحة سكك الحديد والمهجرين، ولم يستطيعوا دمج مجلس الانماء والاعمار ومجلس الجنوب ووزارة الاشغال و«إيدال»، تحت اسم واحد هو وزارة التخطيط، انما عالجوا وضعها بشكل مجتزأ مرحلي، الامر الذي لا يحلّ مشكلة الهدر والفساد.
قد يكون كلام السيد حسن نصرالله في هذه المرحلة مهماً، ولا سيما عندما قال انّ على الجميع أن يتحمّل المسؤولية في الوضع الحالي بدلاً من الانشغال بتسوية حسابات سياسية مع ترك مصير البلاد مجهولاً، مضيفاً أنّ لبنان قد يواجه «الانهيار المالي».
هذا الكلام صحيح جداً ويجب التوقف عنده، اذ أنّ الانهيار حاصل لا محالة ولا سيما انّ السياسيين يتلهون بتصفية حساباتهم ووضع الشروط على الحكومة، ويجب على الجميع تحمّل المسؤولية وعدم التهرّب من أمامها، لأنهم كلهم ودون استثناء شاركوا في الحكومات المتعاقبة، خصوصاً بعد العام 2005 ويتحمّلون مسؤولية ما جرى ويجري من أحداث.
قد تكون حكومة مصغّرة من 15 وزيراً كافية لمعالجة الامور ومراقبة التنفيذ والمحاسبة، وإلّا عدنا الى الشارع مرة جديدة، دون استشراف عواقب تلك العودة.
من خلال قراءة الاحداث ونبض الشارع يبدو جلياً أنّ ضريبة الـ «واتساب» هي النقطة النهائية في جملة تدابير عشوائية اتخذتها الحكومة وحاولت تمريرها على شعب اعتبرته نائماً، دون الاخذ بالاعتبار تحذيرات الاقتصاديين والمستثمرين. انّ اقتصاد لبنان وعمليات الابتزاز هذه مزّقهما النظام المالي، والذي أصبح أقرب الى الحافة أكثر من أي وقت مضى.
هنا يجب التوقف عند دور مصرف لبنان في هكذا أزمة ومقاربته للامور، بما فيها الهندسات، لأنّها مجرد مديونية زائدة وهروب الى الأمام. وللفت النظر فقط لا غير، فانّ مصرف لبنان يحقق ارباحاً هائلة جرّاء بنيته. والسؤال الذي يُطرح وعلى الحكومة التنبّه له، اين تذهب هذه الاموال، علماً أنّ قسماً كبيراً منها يجب أن يعود للدولة؟
هذا هو الوضع الحالي وهذا ما استطاع رئيس الحكومة التوصل اليه خلال 72 ساعة، مع العلم اننا نحتاج الى عمل جدّي من أجل اصلاح ما تبقى، والّا سوف نعود الى المقولة نفسها في سنة 2021 ونعود الى الشارع، خصوصاً أنّ الشارع أصبح فريقاً لا يستهان به بين الأفرقاء ووجب ادخاله في أية عملية انقاذ، والّا انقلب السحر على الساحر وذهبنا الى ما لا يحمد عقباه.
ويبقى أن نقول، انّه لا يمكن حلّ كل هذه المشكلات في 72 ساعة، والأهم التطبيق والمراقبة والمحاسبة.