السذاجة في مقاربة السياسات الاميركية في لبنان، لا تلغي حقيقة أن لواشنطن أهدافها الخاصة من خلف برامج العقوبات الناشطة ضد لبنانيين، سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات. ولا يبخل مسؤول أميركي بالتصريح عن الرغبة في توجيه ضربة الى حزب الله من خلال هذه العقوبات. أما حكاية تبييض الاموال والتهرب الضريبي ومخالفات القوانين المالية، فهذه سرديات لا مكان لها في عالم يقوم أولاً وأخيراً على السرقة.
اليوم دخلت الولايات المتحدة مساراً جديداً في العقوبات. هي تواصل الضغط على كل من يتعامل بالدولار ليتوقف عن أي نوع من التواصل المباشر أو غير المباشر مع أي مؤسسة تتبع أو تفيد حزب الله. هو مسار يبدو أنه مقبل على تصعيد ربطاً بتقييم الادارة الاميركية لنتائج المرحلة الاولى. التصعيد أكيد، لأن التقييم في حال كان إيجابياً، بمعنى أن العقوبات تفيد في إضعاف الحزب، فهذا يعني أنه أسلوب ناجح ويجب زيادة الضغط حتى ينهار الحزب. وإذا كان التقييم سلبياً، فهم – أي الأميركيون – سيرون أن ما اتخذ من إجراءات لا يبدو كافياً، ويجب التشدد أكثر وتوسيع دائرة الملاحَقين، ما يعني الاتجاه أيضاً نحو التصعيد.
الجديد في زيارة الماريشال الاميركي، مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون مكافحة الإرهاب، مارشال بيلنغسلي، أنه فوجئ، كما أركان السفارة الاميركية في بيروت، بأن غالبية من التقوهم، يحمّلون الاجراءات الاميركية مسؤولية التدهور في السوق النقدية في لبنان. سمعوا من الكثيرين أن العقوبات وأجواء التهويل والملاحقة وعدم الوضوح في الطلبات، إضافة الى التدقيق في كل عملية مصرفية، تسبّب في جعل الناس يخافون، فصار مَن في الخارج لا يرسل أموالاً الى لبنان، ومَن في الداخل يسعى لحفظ ودائعه من خلال سحبها لتخزينها خارج المصارف أو تحويلها الى الخارج، وأن الخشية من قرارات مفاجئة تقفل مصرفاً أو مؤسسة من دون أي مقدمات، يزيد الريبة والحذر عند المتعاملين في السوق المالية. فكيف الحال ولبنان يواجه أزمة حادة، سواء في ميزان المدفوعات والميزان التجاري، أم في الفساد والفوضى الهائلة في القطاعين العام والخاص، كما في استمرار سيادة طبقة حاكمة لا يرف لها جفن وهي تواصل «السلبطة» على كل شيء!
الماريشال استغرب، وفي تصرف ساذج، قال إنه سيتكلم مع المعنيين. وكأنه في حال قال للمصارف ولحاكم مصرف لبنان أغرِقوا البلاد بالدولارات، فسيفعلون ذلك، فيما هو يعرف أن مصالحهم المباشرة لا تتطابق مع رغباته، وأن الموسم ليس موسم الاعمال الخيرية، وأن مصالحهم عرضة لمخاطر كبيرة. فكيف يفعلون ذلك وهم بالكاد يحصلون على ودائع، رغم ما يعرضونه من فوائد خيالية. ومع ذلك، يعتقد الماريشال أن من بيده العملة الصعبة، إنما يخفيها عن الآخرين، وأن في مقدور هؤلاء تهدئة الأجواء في البلاد، علماً بأن ذلك أمر مستحيل، حتى لو صرخ الماريشال ليل نهار.
في القطاع المصرفي نفسه، تدور الآن معركة حامية الوطيس. مصارف كبرى تسعى لمنع تراجع موجوداتها بكل العملات. وتقاتل لأجل الاحتفاظ بمودعين كبار، محليين وأجانب، وتسعى في الاسواق العالمية لتقليص حجم خسائرها مقابل التنازل عن قسم من الاسهم اللبنانية التي تحملها. وتظهر المصارف استعداداً كبيراً لخسارة جزء من أرباحها المقدرة مع مؤسسات عالمية (مثل «غولدمن ساكس») لكنها غير مستعدة لإبداء التنازل عن قسم من أرباحها في مشروع تقليص كلفة الدين العام في لبنان.
ثمة جانب آخر من المعركة. وإذا كان لروائي محترف أن يتسلى، فبمقدوره كتابة مسلسل مفتوح اسمه «النميمة»، وهي اللغة الوحيدة الفاعلة اليوم، علماً بأن بعض المصرفيين وبعض المصارف، قبلوا بلعب دور «المخبرين»، لا عند الاميركي حصراً، بل عند جماعات ضغط في الخارج يعتقدون أن في مقدورها حمايتهم من الغضب الاميركي. وهؤلاء المخبرون لا يعرفون حراماً ولا سقفاً للخِسّة. وكل ما يهتمون لأمره هو تحصيل المزيد من الاموال. وبعضهم يعتقد أنه يلعب في الخفاء، علماً بأن نتائج جهوده الوطنية العظيمة تظهر تباعاً في العلن. يمكن الروائي أيضاً أن يكتب فصولاً للمسلسل بقصد التصوير الخارجي، عن العواصم الكثيرة في أوروبا والأميركيتين ودول الخليج، حيث يتم استدعاء رجال الاعمال والمصرفيين من قبل عناصر الاجهزة الاميركية المتنوعة. ومن لم يحالفه الحظ وجرب السفر الى الولايات المتحدة الأميركية، فسوف يجدهم هناك في انتظاره، وبين أيديهم ملفات مكدّسة تثير هلعه، فإذا سقط في الفخ، لا يحتاج كثيراً حتى يصبح عميلاً برتبة «مواطن صالح».
حكايات هؤلاء معروفة، وإن لم يٌتداوَل بها علناً، والمعلومات عن أن الاستدعاءات محصورة بالمنتمين من هؤلاء الى الطائفة الشيعية، هي معلومات مغلوطة، لأن غالبية من يقدمون المعلومات الاساسية ثم يزيدون عليها ويبدعون في «بخ السموم» وفبركة الأخبار، هم من شتى الطوائف.
بعض هؤلاء المخبرين صار يعمل على الإيقاع بالفريسة، ثم تقديم خدمات إضافية للمشغلين. تراه صار خبيراً في عمل مكاتب المحاماة في الولايات المتحدة، فيُخرج فجأة لائحة بأفضلهم مع الأسعار والمهل وخلافه. أما سبب هذه المهنة الجديدة، فهو من نكات الموسم الأميركي: واشنطن لا تدفع أموالاً للمخبرين. هي تهدد بأن تقطع أرزاقهم في بلدهم كما في كل العالم. لكن يمكنها أن تتيح للمخبر الحصول على نسبة من الأموال التي سينفقها المطارَدون أمام المحاكم الأميركية، بأن يأخذ عمولته من مكاتب المحاماة الأميركية التي صارت جزءاً من مؤسسة القهر الأميركية.
كل ذلك يحصل، وأركان الدولة عندنا يتصرفون على أنه أمر شخصي، أو كأنه «تجارة بتجارة». النافذون عندنا لديهم إجاباتهم الجاهزة. المرتبطون منهم مع الأميركيين يقولون صراحة: لا نقدر على المساعدة، إلا إذا وقف المتضرر علناً ضد حزب الله وقام بما يثبت أقواله. وخصوم الولايات المتحدة يتصرفون على أنه لا حول لهم ولا قوة. أما من يفترض أن يتولى المسؤولية العامة، فحالهم تدعو إلى القلق. يخبرك بأنه سيتعرض للترهيب والتهديد بأن تطاله العقوبات إنْ حاول المواجهة، وإما أنه يحيلك على ما تتعرض له شركات عالمية كبرى من ملاحقات أميركية. وفي كل الحالات، لا يتصرف هؤلاء بأي نوع من الاحترام، إذ إنهم صاروا يبادرون إلى محاكاة الهوس الأميركي بأن يقدّموا له معلومات وتقديرات لا تخطر على بال واشنطن. وإذا قال لهم الأميركي دققوا في هذا الحساب، يبادرون إلى إقفاله وإلى طرد كل من يمتّ إلى صاحبه بصلة من جنتهم المصرفية.
هي عملية مستمرة على ما تظهر المؤشرات. لكن هل يسأل المعنيون عن النتيجة النهائية منها؟
حزب الله يقول علناً إنه يحصل على دعم مالي أساسي من إيران، وإنه يفعل ذلك من زمن بعيد. ورياض سلامة سبق أن أقسم بأغلظ الأيمان أن الموارد الأساسية لحزب الله لا تمرّ عبر النظام المصرفي. بل إن سلامة اجتهد – بحكم موقعه ومسؤوليته – في سؤال القريب والبعيد عن الآلية المالية لعمل حزب الله. وهو سمع ذات مرة من السيد حسن نصرالله مباشرة ومن مسؤولين آخرين، توضيحاً وتشديداً على أن الحزب لا يتعامل مع النظام المصرفي لأسباب مختلفة، بينها الديني وبينها الأمني. إضافة إلى ذلك، ينفي الحزب أن يكون لديه أعمال تجارية. ولنفترض أن مقربين منه، أو حتى أعضاء فيه، لديهم أعمالهم التجارية، فهذا لن يغيّر شيئاً في طبيعة السياسة المالية الخاصة بالحزب. وعندما تعرضت إيران للضغط والحصار، وأثّر ذلك بعائداتها العامة، عمد الحزب مباشرة إلى برنامج تقشف قلّص بموجبه نحو 35 بالمئة من نفقاته. وظلّ محافظاً على احتياطه الاستراتيجي الخاص بالمقاومة وأجهزتها العملانية. ولم يؤثر ذلك بالدور الأساسي الذي يقوم به في لبنان أو في ساحات أخرى. وإن كان قد قلص أنشطة عامة هنا وفي الخارج. إلا أن واقع المقاومة اليوم، ليس بالوضع الذي يدفعها إلى تغيير استراتيجياتها في لبنان والمنطقة.
صحيح أن الضغوط العامة على البيئة الشيعية تؤثر بالحزب. لكن المهم بالنسبة إلى من يهمهم الأمر، أن هذا التأثير لا يعطل الدور الذي تسعى أميركا وإسرائيل والسعودية إلى تعطيله. وبالتالي، إن تأثر الحزب – في حال تصاعُد العقوبات والضغوط – سيكون مثله مثل تأثر بقية القوى اللبنانيين بهذه العقوبات… لكن السؤال الأهم هو: إذا حصل الانهيار الكبير، فمن يكون المستفيد ومَن الأكثر ضرراً؟
لنُعِد صياغة المسألة بطريقة أكثر التصاقاً بالهدف الأميركي من هذه اللعبة، أي حماية مصالح واشنطن ومصالح إسرائيل وأمنها، ثم مصالح حلفائها من اللبنانيين والعرب. فهل انهيار لبنان يفيدهم؟ هل الفوضى وغياب الدولة المستقرة والآمنة يفيد هؤلاء ويضرّ بالمقاومة؟ هل الضوابط والاعتبارات التي يراعيها حزب الله اليوم ستكون هي نفسها إذا حصل الانهيار؟ هل ستكون قدرة المقاومة على زيادة تسلحها أصعب، أم ستتوسع هوامش المناورة أمامها؟ هل سينفضّ الجمهور من حولها، أم سيهاجر الناس دفعة واحدة؟ وإذا سقط النظام المصرفي في لبنان، ومعه مؤسسات الدولة المالية والاقتصادية، فكيف ستكون حال بقية اللبنانيين؟ هل تتوقع الولايات المتحدة أن يشهد لبنان انتفاضة ضد حزب الله؟ ألم يتعلموا من درس 14 آذار وقواها وبقاياها، بما في ذلك «العاطلون من العمل» منهم ومن «شيعة السفارة»، أم أن الأميركيين يصدقون بعض التصريحات والمقالات والتهريجات؟
هل الضوابط والاعتبارات التي يراعيها حزب الله اليوم ستكون هي نفسها إذا حصل الانهيار؟
المنطق الأميركي يقول إن أمن إسرائيل هو الأساس، وإن واشنطن ستتصرف بما يتناسب مع مصلحتها ومصلحة تل أبيب. والولايات المتحدة قررت، مثلاً، رفع كلفة بناء سفارتها في بيروت من مليار دولار إلى مليار ونصف مليار دولار. وتناقش احتمال إقامة قاعدة عسكرية «غير رسمية» في السفارة نفسها وفي قواعد للجيش اللبناني، وتريد رفع عديدها الأمني والاستخباري والاستشاري العسكري في لبنان، إضافة إلى أنها قررت السماح لمؤسسات مالية أميركية بتمويل مشاريع بنى تحتية في لبنان (الكهرباء مثلاً) ساعية إلى تعزيز حضورها في هذا القطاع من خلال شركات صناعية ومالية أميركية («جنرال إلكتريك» و«أوبيك» وغيرهما). ولم تعترض على مساعي شركة أميركية للدخول عبر «توتال» الفرنسية للتنقيب عن النفط والغاز في البحر اللبناني. كذلك تسعى إلى توسيع صادراتها من الأدوية والخدمات الطبية إلى لبنان… كل ذلك، قد لا يكون له قيمة جدية بالنسبة إلى حجم الاقتصاد الأميركي، لكنه يعطي إشارة إلى ما وصفه البعض بأنه قرار أميركي بوضع لبنان في غرفة الإنعاش. ممنوع علاجه بصورة تامة وممنوع موته!
صيادو الفرص وسلّاخو البقرة
في كل مرة تقع مصيبة في القطاع المصرفي جراء قرار أميركي، لا يمكن توقع انتفاضة من «زملاء» المغضوب عليه، كما من الدولة نفسها. فعلى العكس من ذلك، يبادرون إلى معركة «سلخ» ما أمكن «سلخه» من جسد البقرة التي أوقعت بها العقوبات الأميركية. حتى في حالة الشبهة، كما هو الحال اليوم مع الشائعة الأميركية (المصدر) واللبنانية (الترويج) عن نية الأميركيين معاقبة كل مصرف يديره شيعة، تعْمَد المصارف الأخرى إلى تعظيم الأمر، وإلى مدّ أعلام موالٍ لها بمعلومات غير صحيحة. ثم تنطلق في الوقت نفسه فرق العاملين الذين يتواصلون مع مودعين في هذه المصارف ويقولون لهم (من باب «النصيحة» لا أكثر!): «ما لَكم وهذه المخاطر، تعالوا إلينا ونحن نحفظكم ونحميكم ونقدم لكم العائد الأفضل». وهي عملية يقوم بها أكثر من مصرف، رغم أن «الجسم اللبّيس» يطابق في هذه الحالة مصرفَي «سوسيتيه جنرال» لصاحبه أنطون صحناوي، و«بيروت» لصاحبه سليم صفير. علماً أن مديرَين في هذين المصرفين قالا إنهما أبلغا مديري فروع لهما في الجنوب وبيروت بالتوقف عن أي اتصال من هذا النوع.
ثمة جانب آخر لواقعة «الفجعنة» عند الذين يحظون برضى الماريشال الأميركي. إذ سارع بعضهم إلى التثبت من حجم «الجريمة» التي ارتكبها مصرف «جمّال ترست بنك». ولمّا سمعوا من الماريشال العظيم أن إدارته ستعيّن مدقّقاً يحضر أعمال لجنة تصفية البنك، وأنّ أنور الجمال سيُلاحَق وتُحجَز أملاكه وأملاك المصرف خارج لبنان (قال الماريشال إن الهدف منها سداد الديون المستحقة على المصرف)، سارع «العسس» إلى التدقيق في حجم هذه الأصول وأحوالها وفي ما إذا كان الرجل يقدر على بيعها الآن. وإذا سألتَ أحدهم عن مصلحته في الأمر، يجيبك فوراً: «قلنا له سابقاً أن يبيع المصرف بمبلغ معقول، لكنه رفض، والآن نقترح عليه أسعاراً معقولة، لأن بديله خسارتها كلها بلا أي مقابل»!
إلى جانب ذلك، تستمر الاتصالات غير المعلنة مع المصارف المصنفة أنها في دائرة الخطر، لأجل فحص إمكان الاستحواذ عليها بكلفة أقل من السعر الذي يُمكن أن يدفعه ثمناً لها في الحالات الطبيعية. وتسعى إلى ذلك الاستحواذ المصارف القادرة على تحصيل دعم خاص من مصرف لبنان لأي عملية دمج أو شراء محتملة، وحاكم مصرف لبنان حاضر دوماً «لأن في ذلك ما يحمي النظام المصرفي للبنان»!
من ملف : من الأكثر تضرراً من الانهيار؟