إذا دخل الإحساس بالجمال، الذي هو جوهر الفن الرفيع، من الباب، هرب القبح، ومنه الإرهاب، من الشباك.
كلما تعززت قيمة الفنون، وارتقى الإحساس بها، اتسعت نظرة الإنسان للعالم والناس من حوله، وكان إدراكه لقيمة الحياة عاليا، وتيقن أن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» كما قال الشاعر محمود درويش، ذات رعشة جمالية.
الفنون شجرة، فيها أغصان مثقلة بالثمر، موشاة بالورق، تتدلى منها الموسيقى، والمسرح، والتمثيل، والشعر، والرسم، ومن كل غصن كبير من هذه الغصون تتعنقد عناقيد شتى، وأصناف يانعة من كل زوج بهيج.
من أجل ذلك، يكون انخراط فنان «حقيقي» في خطابات الكراهية، وجماعة القتل والنبذ، من كل دين وثقافة، مدعاة للاستهجان والامتعاض.
للفنان أن يحلم بوطن، أو يمجد قوميته، ولو بفجاجة، ويتغنى بتاريخه الديني والحضاري، غير أن ذلك لا يجعله يرمي ريشته أو يخنق صوته، ليحمل البندقية ويتحول إلى «ميليشياوي» رث كريه.
أدين كثير من الفنانين في أوروبا بسبب نشاطهم «الاختياري» الحماسي مع النازية الألمانية والفاشية الإسبانية والإيطالية، والشيوعية والقوميات السلافية، لدرجة حمل السلاح وقتل الآخر على الهوية.
في منطقتنا كانت الصدمة العامة للجميع بتحول فنان عذب الصوت، رقيق الإحساس، وهو اللبناني فضل شاكر، لميليشيا لبنانية متشددة.
لا يكفي أن يقال إن سبب تطرف فضل شاكر وتحوله إلى عنصر «جهادي» بنفس طائفي قاعدي، كان عربدة حزب الله، التابع لإيران الخمينية، وأيضا تصفيق حفنة من الفنانين اللبنانيين لهذا الحزب الطائفي، ولنظام الأسد المجرم، لأسباب طائفية هي الأخرى. لا يكفي هذا، مع الإقرار بوجود الطائفية المضادة، لأن الفنان قوته في فنه، ويقدر من خلال موهبته على توصيل ما يريد توصيله، بطريقة إنسانية راقية، تجمع أكثر مما تفرق، وتوسع دائرة المتعاطفين مع القضية خارج أسوار الطائفة.
أدرك فضل شاكر أنه يغرد بعيدا عن شجرته، فقرر الأوبة والتغريد مجددا من على شجرة الفن. وتناقل الإعلام خبر عودة فضل شاكر من رحلته المتزمتة، دون التخلي عن معارضته للأسد وحزب الله، ولكن ليس بأسلوب الأسير وجبهة النصرة، بل بلغة الموال وأبجدية الأوتار، بمضمون أشمل وأرحب من ضيق الكهف الطائفي، وحسبك بها من لغة بليغة.
استفز هذا التحول الحسن عشاق الكراهية، وحماتها، فكتب أحدهم في حسابه بـ«تويتر»، وهو السعودي المناصر لجبهة النصرة عبد الله المحيسني، حسب «سي إن إن» العربية، رسالة لفضل شاكر، وبخ فيها الفنان على تركه للجماعات المتشددة المسلحة، وقال له: «إذا لم تستطع طريق الجهاد فدونك طريق الدعوة إلى الله، فإن عجزت وكسلت فإني أعيذك بالله يا فضل من الحور بعد الكور والانتكاسة بعد الهداية». قد لا يرى البعض ربطا بين كراهية الفن والقدرة على تقديره، وبين تفشي ثقافة الكراهية والنبذ، لكن بتأمل، تدرك كيف يفضي هذا لذاك، فالكراهية قبح، والفن جمال، بينهما برزخ لا يبغيان.