طرحت فكرة الخصخصة خلال هذا الاسبوع، لفتح النقاش الصريح مع المواطنين، ولفتني انّ هذه العبارة تثير القلق لدى اللبنانيين، فالخصخصة التي اعتُمدت في لبنان اقتصرَت على أصحاب النفوذ بدلاً من خصخصة مفتوحة لجميع اللبنانيين لشِراء أسهم شركات تبقى ملكاً للشعب وتشمل آلاف اللبنانيين، وحتى محاولة توزيع الأسهم على عدد من اللبنانيين وغير اللبنانيين في شركة «سوليدير» مثلاً، لم تتمّ بشكل شفّاف وعادل، بل تحوّلت جمهورية «سوليدير»، التي يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، وتداول الأسهم لم يكن شفّافاً وخاضعاً لقوى السوق.
وبالتالي يجب اليوم اعادة النظر في الخصخصة واعتماد خصخصة شفافة لمرافق حيوية وقطاعات متعثرة مثل: الكهرباء، وقطاع ادارة النفايات، المرفأ، الطيران، التعليم والنقل وغيرها.
ووصلنا اليوم لقناعة لا رجوع عنها، الدولة مستثمر، مشغّل خدمات، ومعلم فاشل. ومن لا يرى هذه الحقيقة المطلقة يحاول دفن الرؤوس في الرمال، والتعنّت في السير في طريق مسدود سيوصل الاقتصاد الوطني الى الانهيار.
فكيف نقتنع اليوم، انّه لا لزوم للخصخصة والتلزيم. انظروا الى كل ما تُديره الدولة ومؤسساتها العامة من المستشفيات الحكومية الى المطار، من الخليوي الى الكهرباء والمياه، خدمات غير تنافسية، من اغلى اسعار الاتصالات في العالم.
وهنا أشدّد على انّ تجربة الخليوي ليست مثالاً عن الخصخصة ابداً، وهذا ما يتمّ الخلط به دائماً، ولا ننسى التعليم الذي يتخبّط في دوامة مفرغة، فتنخفض نسبة التلاميذ في المدارس الرسمية سنة بعد أخرى، في حين العائلات تُصارع لتأمين تكاليف التعليم الخاص، والدولة تدفع تكاليف كبيرة على التعليم الرسمي الذي بلغت نسبته حوالى 36% فقط من نسبة التلاميذ عامة.
استغرب كيف يقتنع اللبناني بأنّ شركة MEA مثلاً او شركة إدارة مرفأ بيروت تقومان بعمل جبار وتربحان وتؤمّنان واردات للدولة. فقارنوا سعر بطاقات السفر بيننا وبين العواصم حولنا او رسوم المرفأ بيننا وبين كل الدول حولنا! المحتكر لا ينافس ولا يربح، بل يبتز المواطن بكل بساطة!
يجب ان نقتنع اليوم انّ الاحتكار شرّ مطلق، وادعو في كل مرة الى مراقبة الاحتكارات، وذلك عبر إنشاء لجنة لمراقبة الاحتكار الخاص والرسمي، منفصلة عن كل الوزارات «Anti – Monopolies Commission» تهدف الى دراسة الاحتكارات في لبنان وتحليل جدواها الاقتصادية وملاءمتها للاقتصاد المنتج والعمل تدريجياً على زيادة التنافس وتفكيك كل الاحتكارات.
أعتقد اليوم، أنّ الخصخصة او التلزيم لفترات متوسطة او طويلة مع الحفاظ على نسبة دخل معقولة للدولة، قد تؤمّن ما بين 30 و40 مليار دولار لخزينة الدولة، في حال اعتمادها في عدد من المرافق كالمطار والمرفأ والاتصالات وشركة «ميدل إيست» وقطاع التعليم وغيرها، مع إمكانية منح الشركات الخاصة إمكانية إدارة هذه المرافق لـ10 أو 20 أو 30 سنة، على أن يتحدّد ذلك تبعاً لما إذا كان مطلوباً من المستثمر إنشاء بنى تحتية. والمهم ان يكون التلزيم لشركات متخصصة في القطاعات لخلق الثقة لدى المواطن.
يجب السير حالاً بمبدأ الاستفادة من املاك الدولة وفك احتكاراتها والبدء مثلاً ببناء مطارات جديدة وسكك حديد وكازينوهات وطرقات، كما مشاريع جديدة مثل الميترو ومطارات نقل عام ونقل داخلي هيليكوبتر وغيرها، من خلال عقود استثمار ولو طويلة الأمد للخروج من الأزمة، ولكن ليس قبل تطبيق الشفافية المطلقة، عبر جعل البيانات والمداخيل والمصاريف الحكومية مفتوحة للجميع واعتماد مناقصات ومزايدات شفافة كلياً.
والاهم، هو التعليم، وهذا له الاثر الكبير في المجتمع يجب أن يبدأ بإنتاج عقول قابلة للتطوير وتتناسب واقتصاد المستقبل. وقد تكون أهم نقطة في ما يتعلق بالاقتصاد على المدى الطويل هي التعليم بمستوى جيد، حيث من شأن توفير التعليم الرسمي المجاني للجميع بمستوى جيد، أن يُطلق مسيرة تعزيز مهارات العمل والإنتاجية الاقتصادية في لبنان.
ومن هنا يجب العمل على بدء عملية تجريبية سريعة من خلال تلزيم بعض المدارس الرسمية في كل محافظة للقطاع التعليمي الخاص الناجح، والذي يُسجّل نسبة نجاح تفوق الـ80% في الامتحانات الرسمية، مع الحفاظ على المعلمين. من هنا تبدأ المعركة الاقتصادية الإصلاحية، وهذا قد يكون أعظم إنجاز.
طرح الوزير فرنجية أخيراً بالنسبة لأرض مرفأ بيروت جدير بالتفكير، وهو إنشاء منطقة حرة. ولكن، هل نستطيع ان ننشئ منطقة اقتصادية حرّة على ارض سعر مترها المربع $20000؟ وما هي المصالح التي تستطيع ان تتحمّل هذه الاسعار! حتى القطاع السياحي لا يستطيع تحمّل هذه الاسعار! مرفأ بيروت كمرفأ اذا خُصِّص يؤمّن 300 مليون دولار للدولة سنوياً حداً ادنى، اذا بقيت الخدمات والرسوم على ما هي عليه اليوم، واما اذا أدخلنا القطاع الخاص واستُثمرت الابنية، كما يجب، ومع حرية استثمارات جديدة يكون المردود اعلى من ذلك بكثير.
يجب ان نُفكّر جدياً في موارد الدولة الضائعة في مزاريب الهدر والبيروقراطية وسوء ادارة الخدمات، وننطلق نحو الخصخصة الناجحة القادرة على تأمين حقوق للدولة وفي الوقت نفسه تطوير الخدمات لتحسين صورة لبنان الاستثمارية وتوفير المزيد من فرص العمل المنتجة، والاهم الخروج من دائرة الاحتكار والابتزار التي اصبحت لقمة المواطن اللبناني اليومي.