IMLebanon

عن إعادة ملف جريمة المرفأ إلى القاضي صوان!

 

الاثنين الماضي أصدرت محكمة التمييز الجزائية قراراً ردت بموجبه أحد طلبات الادعاء باسم الوزيرين السابقين النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، الذي استهدف سحب ملف التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت من قاضي التحقيق العدلي فادي صوان، فأعادت المحكمة الملف إليه، وطالبته بإكمال عمله حتى صدور القرار النهائي بدعوى «الارتياب المشروع».

يرتدي هذا القرار أهمية استثنائية لأنه بمثابة الرد القضائي المفحم على المنحى التشكيكي في أداء القاضي صوان ومهنيته وكفاءته. لم يقتصر هذا المنحى على ترويجات في الإعلام وتسريبات نُسبت إلى التحقيقات الأولية، ومطالبات كان من شأن الأخذ بها كشف سرية التحقيق وبالتالي طي الملف، بل بدأ الطعن بأداء قاضي التحقيق العدلي من جانب المنظومة السياسية التي لم تستفظع جريمة الإبادة الجماعية وتدمير نصف بيروت، بل استفظعت أن يعلن قاضي التحقيق العدلي أنه «تبين من التحقيقات الاستنطاقية وجود شبهات جدية تتعلق ببعض المسؤولين الحكوميين»، فكان الادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال وثلاثة وزراء سابقين، شكلوا الدفعة الأولى من رؤساء الحكومات والوزراء الذين تناوبوا على المسؤولية منذ عام 2014 حتى جريمة الحرب التي ارتكبت في الرابع من أغسطس (آب) 2020.

تصدر المجلس النيابي حملة التشكيك، ومثله فعل نادي رؤساء الحكومات، وتوج الحملة حسن نصر الله. ما من جهة منهم قالت إن لبنان كله، كما الضحايا وأسرهم، وسائر المتضررين، بحاجة للحقيقة وللعدالة في جريمة الإبادة الجماعية التي أسفرت عن قتل 210 أشخاص، وجرحت أكثر من 6 آلاف بينهم أكثر من ألف معوق، وشردت نحو 300 ألف بعد دمار كامل أو جزئي لنحو 63 ألف وحدة سكنية إضافة إلى الأضرار الجسيمة الأخرى! رغم هول الجريمة تعاملوا بفوقية مع النتائج، فلم يخصص المجلس النيابي جلسة واحدة لبحث حدث أسقط كل هؤلاء الضحايا وشرد مئات الألوف! حدث ناقشته الجمعية الوطنية الفرنسية، كما أصدر بشأنه مجلس الشيوخ الأميركي قراراً إجماعياً يطالب «بتحقيق ذي مصداقية وحيادية وشفافية بمشاركة خبراء دوليين لكشف المسؤولية». بل كان السائد، وما زال، المسارعة إلى التبرؤ من المسؤولية عن وجود مستودع الموت تحت وسائد نوم المواطنين، وكل ما دفعوا إليه كان يرمي إلى الإفلات من العقاب وتسجيل الجريمة ضد مجهول، كما في كل الجرائم الكبرى المرتكبة من نحو خمسة عقود!

باسم المجلس النيابي قال نائب رئيسه إيلي الفرزلي: «نحن العدالة شاء من شاء وأبى من أبى.. (نحن لم نجد أي شبهة جدية أو غير جدية على كل من ذُكرت أسماؤهم)». وكسر الحريري القطيعة مع دياب (رئيس حكومة تصريف الأعمال) وانتقل إلى السراي ليضع خطاً أحمر على رئاسة الحكومة، أي فوق العدالة! ويعلن نصر الله أنهم في «حزب الله» حسموا أن «الادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال والوزراء لا يستند إلى أي أساسٍ أو معيار»! لقد بلغ التحامل حد الانتقال من أولوية التحقيق في جريمة التفجير، إلى محاولة سياسيين متهمين بالكبائر، التحقيق مع المحقق العدلي في جريمة المرفأ!… في هذا السياق كان لافتاً ما روّجت له قناة «المنار» التلفزيونية، من أن «التحقيقات الداخلية والخارجية أظهرت أن الانفجار ليس ناجماً عن اعتداء خارجي أو صاروخ أو مواد استخدمت للتفجير وليس بفعل فاعل، بل بسبب عملية تلحيم وبقاء الشرارات داخل العنبر رقم 12 لأكثر من ساعة»! لكنها لم تبح من هي هذه الجهات «الداخلية والخارجية» التي حققت وحسمت وأصدرت النتائج التي كان قد روّج لها بعض السياسيين من البداية، بأن ما حصل خطأ إداري وإهمال، وهناك بالتالي أكثر من كبش فداء؟! ولو كان هذا المنحى قد تكرس لكان تم طي التحقيق وجرى حرف البوصلة باتجاه آخر.

اليوم مع استئناف المحقق العدلي التحقيق هناك الكثير من المعطيات التي تستدعي التوقف أمامها. فمن اللافت أن رئيس حكومة تصريف الأعمال المدعى عليه حسان دياب، الذي أقفل السراي سابقاً بوجه المحقق العدلي، أورد في سياق تبرير نفسه أن التقارير تحدثت عن أن كمية نيترات الأمنيوم التي تفجرت هي بحدود 500 طن فقط، وقد جرى تباعاً سحب كميات من العنبر رقم 12 تفوق 2200 طن، فمن سحبها؟ وهل استخدمت وأين وفي أي مجال؟ وهل هناك كميات تم تخزينها في أمكنة أخرى؟ ليضيف أن ما جرى من «فعل فاعل» ولا بد من «وجود صاعق» واحتمال عملٍ مقصود! ولا شك أنه سيكون مضطراً للرد على أسئلة الادعاء، لأن الحصانات لن تحمي أحداً أمام هول الجريمة، وبالتالي فإن ما لديه قد ينير التحقيق لأن الرواية التي قدمها على الملأ النائب السابق وليد جنبلاط توفر مادة دسمة للتقدم في التحقيق العدلي.

في رواية جنبلاط أن النظام السوري قد يكون مالك هذه الشحنة التي وصلت في مرحلة معركة حمص، وكانت حاجة النظام كبيرة لعمليات القصف بالبراميل، حيث استخدمت النيترات في التدمير والاقتلاع! لكن الحلقة المفقودة هنا، هي المتعلقة بكيفية استقدام هذه الشحنة، والمعطيات التي أدت إلى تخزينها، ومن الجهة أو الجهات التي أمنت لها الحراسة كل هذه السنوات؟ وتبيان دور «حزب الله» المهيمن على العنابر كما الأرصفة، وهذه أمور كبرى يستحيل أن تكون الإجابة عنها عند موظف إداري مهما كانت مسؤولياته! من هنا يفهم المنحى الذي ذهب باتجاهه التحقيق، حيث يمكن أن تكون الأجوبة لدى السياسيين من رؤساء حكومات ووزراء المالية والأشغال والعدل والقيادات العسكرية والأمنية، من دون أن ننسى أن وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق (بين الأعوام 2014 و2018) تحدث عن حفرة ضخمة أحدثها التفجير، ونبّه من تواطؤ أميركي – إسرائيلي – لبناني لتضييع التحقيق، والتقى بذلك مع العديد من الخبراء العسكريين المستقلين الذين لم يسقطوا فرضية وجود أيادٍ إسرائيلية!

تجمع جهات قضائية على أن التحقيق مسار يتم بدقة وتأنٍ، ويحترم الأصول القانونية التي تحكم التحقيق في مثل هذه الجرائم. وهناك أسئلة كثيرة عن ارتباط ما بين الحدث الكبير وجرائم متسلسلة تبدو ذات صلة أدت إلى مقتل الضابطين الكبيرين في الجمارك جوزيف سكاف (2017) ومنير أبو رجيلي والمصور جو بجاني (2020). هنا من المهم الإشارة إلى الجديد الذي يكمن في تضافر عناصر ساهمت في القطع مع ممارسات سادت سابقاً حيال كل الجرائم التي ارتكبت، تعود إلى حالة نهوض قضائي من جهة ودور مميز لنقابة المحامين من الجهة الأخرى. ولعل تزامن هذه الجريمة مع المناخ الذي أوجدته ثورة تشرين، فرض وضع المساءلة والمحاسبة على جدول الأعمال، رغم منحى تعسف السلطة واستبداد المنظومة المتحكمة المستندة إلى دويلة «حزب الله». وما رفض التسليم بسوابق عدم القدرة على الكشف عن المرتكب، والمضي بالتحقيق إلى وجهته النهائية، إلا الرافعة للتقدم في معركة استقلالية القضاء، ومعركة إعادة فرض «التدقيق الجنائي» لكشف جوانب من نهب البلد وإفلاس أهله، ومعركة أكثرية المواطنين لاستعادة الدولة المخطوفة.