لم يتسنَّ لي إلا قبل أسبوع أن أشاهد تلك الحلقة التي خصّصها برنامج «كلام الناس» للجامعة الأميركيّة في بيروت. وللكلام عن الحلقة شقّان في الإعلام. أوّلاً، يميّزون في أميركا بين ما هو إعلام وبين ما هو دعاية تجارية وبين ما هو بين المنزلتيْن في الظاهر: أي الدعاية التجاريّة المرتدية لباس المعلومات.
والـ«إنفومرشيل» وصل إلى بلادنا: ما كنّا نراه من شرائط عن اكتشافات علميّة لزين الأتات (وكيف أن أدوية له تستطيع لو وضعتها على الرأس أن تشفيك من القشرة ولو وضعتها في الشرج تشفيك من البواسير ولو تناولتها أقراصاً في الفم لشفيتَ من القُرحة) يدخل في باب الـ«إنفومرشيل». لكن الـ«إنفومورشيل» يظهر أحياناً في البلاد العربيّة من دون إشارة للإفصاح عن هدفه التجاري. فبعض المصارف بات يُعلن في الصحف لكن على شكل مقالات غير ممهورة بتوقيع. وبرنامج «كلام الناس»، يجب أن يُدرج في خانة الـ«إنفومرشيل».
«كلام الناس» ليس برنامجاً إعلاميّاً. هو أقرب إلى الدعاية السياسيّة والتجاريّة الصفيقة، وبإدارة لا علاقة لها بالمهنيّة. حتى الحلقات التي تدور حول الأعمال الخيريّة أو المؤسّسات الطبيّة تشعر بأن وراءها صفقة «بزنس» ما. يظهر أحياناً ثري لبناني لم يسمع به أحد، ويُسمَح له الحديث الطويل ويتعامل معه مدير الحلقة على أنه رجل سياسي بارز. يظهر مثلاً ميسرة سكّر (صديق رفيق الحريري الحميم) في خضمّ فضيحة النفايات، ويصبح البرنامج ملكه بالكامل ويتلقّى الأسئلة كمن يتلقّى الورود. هذه مثلما يستضيف البرنامج «الريّس» عصام فارس، أو صديق مارسيل غانم، وليد جنبلاط. والمُضيف ظريف في طريقة إدارته: فهو يسمح بهجاء بعض الحكّام العرب (أي الحاكم السوري) لكنه يتنطّح فوراً وبقوّة للاعتراض وقطع الحديث لو وردت كلمة نقديّة واحدة أو إشارة عرضيّة ضد الملك السعودي، ويستشهد فوراً بتلك العبارة الخالدة عن «الأيادي البيضاء» لعواصف الحزم السعوديّة عبر التاريخ. وعندما يفعل ذلك لا يبدو الأمر عفويّاً أو بريئاً. وأصحاب المصارف ضيوف معزّزون في البرنامج، كما رجال الأعمال (الأثرياء جدّاً منهم). ومن حق المُشاهد أن يتساءل: هل أن هذه الحلقات الترويجيّة (مثل تلك الحلقة قبل سنوات مع الوليد بن طلال على متن يخته) هي مجانّية أم مدفوعة؟ لو كانت مجانّية من دون مقابل فهي تدين المُضيف لأنه لا يقوم بدوره في محاججة أو مساءلة أو معارضة الضيف، لا بل هو يسأل تلك الأسئلة التي تساعد على تحسين صورة الضيف. والطريف أن مارسيل يعلّم مادة الإعلام في جامعة (أو أكثر) في لبنان، لكن هذا هو لبنان، ونقيب صحافته هو عوني الكعكي.
أما الحلقة عن الجامعة الأميركيّة وعن بطلها، فضلو خوري، فكانت ترويجيّة بالكامل. هي افتقرت إلى أدنى معايير المهنيّة الصحافيّة التي لا يعيرها أي اعتبار مُضيف الحلقة، لكن هو يتذرّع بها عندما يريد أن يقطع كلام ضيف معارض لأصدقائه السياسيّين أو رجال الأعمال، أو أصحاب «الأيادي البيضاء» في النظام السعودي. حلقة دامت لأكثر من ساعتيْن لم تستضف ولا ناقداً أو معارضاً واحداً للجامعة. هل يُعقل أن بين الآلاف من خرّيجي وخرّيجات الجامعة لم يوجد ضيف واحد معارض لها أو ناقد لدورها؟ قد يقول قارئ إن الحلقة تضمّنت ظهور معارضين من النادي اليساري، «السنديانة الحمراء»، لكن بمجرّد أن ظهرت المجموعة المعارضة الصغيرة وهي ترفع لافتات سلميّاً، بدأ التعكير عليهم من قبل المحطّة والجامعة. سخر منهم مارسيل، وقبل أن يسمع ما لديهم، أشاد بالجامعة وبحريّاتها لأن هناك بين الحضور بعض المعارضين. وقبل أن يتفوّه طالب معارض بكلمة، وعظه مارسيل (الذي لم يقاطع أياً من مادحي ومادحات الجامعة) حول ضرورة الاختصار. هذا يمرّ على أنه تنوّع للآراء. لكن ظهور المجموعة لم يكن بترتيب من الحلقة، وهي أحرجت — كما الجامعة — بظهورهم.
لكن المُذهل كان في طريقة تخاطب رئيس الجامعة، فضلو خوري، مع المحتجّين. لم يسبق أن واجه رئيس الجامعة الطلّاب علناً بهذه اللهجة المُهينة وبسوق الإهانات لهم أمام الملأ وعلى شاشة تلفزيونيّة. عاملهم كالأطفال ــــ والأطفال لا يستحقّون الإهانة طبعاً ــــ ووصفهم بالكذّابين وربطهم بدونالد ترمب، وأضاف أن كلامهم يستحق الرمي في سلة القاذورات. لو أن رئيس جامعة في أي مكان في أميركا خاطب التلاميذ بهذه الطريقة، فإنه سيجد صعوبة بالغة في الاحتفاظ بوظيفته. أذكر قبل سنوات أن لهجة رئيس الجامعة في تخاطبه مع تلميذ كانت حادة بعض الشيء (لكن لم تصل إلى درجة إهانات فضلو) فطلبتُ منه الاعتذار علناً من الطالب، ففعل فوراً ومن دون حرج. لكن أسلوب فضلو التسلّطي في قيادة الجامعة ظهر أمام الجميع، وهو يدلّ على غياب الاحترام للطلبة، وعلى فهم مغلوط لقيادة الجامعة. كنتُ أقول لزميل في موقع إداري في الجامعة هنا أن سلطات القيادة في الجامعة صغيرة جداً، بالمقارنة مع السلطة السياسيّة، لكن البعض يصغر بها بدلاً أن يكبر بها. من لديه رغبة في التسلّط يتسلّط، ولو بسلطات محدودة في قيادة دكّان.
واستعانت الجامعة بـ«الأرستقراطيّة الطلاّبيّة» (كما الارستقراطيّة العمّاليّة التي تستعين بها طبقة الصناعيّين لتأديب وضبط العمّال والحدّ من تنامي وعيهم الطبقي) كي يدافعوا عن الجامعة. لهذه الدرجة وصل غياب الوعي الطلاّبي في جامعة كانت رائدة في الحركات الطلاّبيّة. لكن هناك ما لم يكن مُعلناً في الحلقة. وصلني من مصادر موثوقة (ومتعدّدة) في الجامعة أن إدارة الجامعة زرعت موالين لها بين الطلاّب وكانت بعض الأسئلة معدّة سلفاً كي تستجلب ما كان فضلو يريد أن يقوله. وخلافاً للصفة الديموقراطيّة التي أسبغها مارسيل (قسراً) على الجامعة بسبب وجود طلّاب معارضين (كأن ذلك كان بعلمها وموافقتها) فإن الطلّاب المحتجّين تعرّضوا لمضايقات وتهديدات بعد الحلقة مباشرة. فقد انتظر عميد الطلبة في الجامعة الطلبة المحتجّين (لم يتجاوز عددهم الثمانية) بعد انتهاء الحلقة وسألهم: لماذا فعلتهم ما فعلتم؟ أنتم من «السنديانة الحمراء»، أليس كذلك؟ أما فضلو فقد استدعى طلّاباً من طاقم العاملين في «أوتلوك» (ربما لعلمه بقربهم من المحتجّين) وأعلمهم مُهدّداً بأن النادي الذي رتّب الاحتجاج سيواجه مشاكل جمّة، خصوصاً الطالبيْن اللذيْن تحدّثا في الحلقة. وقال إنه يفتّش عن وسائل معاقبة لهما بما فيها «التعليق»، وأنه قد يكتب على سجلّ تخرّجهم أنهما شاركا في الترويج لأكاذيب عن الجامعة لتغيير الرأي العام. ولم يكتفِ فضلو بذلك، بل دعا إلى اجتماع عام طارئ بعد نحو أسبوعين من الحلقة وقال في رسالة الكترونيّة (من رسائله الحكواتيّة التي يرسلها للطلبة والهيئة التعليميّة) إن واجب المحتجّين تقديم «معلومات صحيحة» وأنهم لم يفعلوا ذلك. والتعامل الفظّ مع الطلاّب ليس جديداً في ظلّ هذه الإدارة. فعميد الطلبة قرّع التنظيم النسائي (المعتدل) في الجامعة لأنه اعترض على صفحات «فايسبوك» على إهانات وتحرّشات من طلبة من الجامعة، وأرسل العميد لهنّ رسالة (حصلتُ على نسخة منها) يحضّهم فيها على الصمت لحرصه على سمعة الجامعة، كما أنه شبّه الاعتراض بالتصرّف القروسطي وبسلوك «طالبان» (الإهانة لهنّ هنا مزدوجة)، وذكّرهن بأنهن كطالبات الجامعة الأميركيّة يجب أن يكنّ أكثر «حضاريّة» («سوفستيكيتد» بالإنكليزيّة).
أي إن إدارة الجامعة تمعن في احتقار حقوق الطلبة والأساتذة. ولن يغرّنا أن الجامعة تعد بإعادة نظام تثبيت الأساتذة الذي ألغته في سنوات الحرب (لكن فضلو ينسب فضل الإعادة لنفسه مع أن القرار اتخذ في الإدارة الماضية، والمماطلة في تنفيذ القرار ستحكم مسار الجامعة على الأرجح). لكن فضلو لن يحقق استقلاليّة للأساتذة مع نظام التثبيت لأنه يريد أن يستولي على معظم أعضاء اللجنة التي ستوافق على أمر التثبيت (حسب الاقتراحات المُناقشة، أراد فضلو أن يعيّن ما يقارب الـ١٤ عضواً من أصل ١٦ عضواً، بدلاً من إتاحة المجال لانتخاب نصف الأعضاء كما هو معمول به خارج لبنان). وأسلوب تدخّل وسطوة فضلو بدأ قبل أن يتولّى رسميّاً في احتفال فولكلوري مبتذل رئاسة الجامعة.
فقد شغلته مبكراً قصة الزميل ستيفن سلايطة. هو تدخّل مع الإدارة السابقة من أجل فصل ستيفن (أو عدم التجديد له) وهو كان صريحاً في أنه لا يريده في الجامعة (وحسب مصدر في الجامعة وصفه بـ«معادي السامية» مع أن ستيفن لم يتفوّه بكلمة يوماً ضد اليهود: كان سلايطة يحاول في تغريداته — وإن لم يكن موفّقاً في الصياغة تماماً — اتهام العدوّ نفسه بإهانة اليهود ولم يقصد أبداً إهانة اليهود كيهود). وما أن وصل فضلو إلى السلطة، حتى تدخّل في عمل لجنة البحث عن مدير لـ«مركز الدراسات والأبحاث الأميركيّة» بذريعة حدوث «سوء في السلوك» و«تضارب في المصالح». ولم ينسَ خوري كعادته في تعيير منتقديه وصفهم بمروّجي الأكاذيب الخبيثين، بحسب ما ورد في تقرير «إنسايد هاير إيديوكشن». لكن فضلو لم يروِ للعلن الخلفيّة السياسيّة لقراره بإلغاء قرار لجنة جامعيّة مستقلّة بتعيين سلايطة. بعيداً عن الإعلام، كان فضلو يزهو بتلقّيه مكالمة هاتفيّة من السناتور الأميركي ريتشرد دربن (من إلينوي، ومن عتاة صهاينة الكونغرس — وكلّهم عتاة الصهاينة في الكونغرس، من برني سندرز إلى جون ماكين) يعترض فيها على تعيين سلايطة. إن قبول رئيس للجامعة، يختبئ دائماً خلف الذرائع الإداريّة والحجج الأكاديميّة والكفاءة، بتلقّي مكالمة سياسيّة من دولة أجنبيّة للتدخّل في قرار تعيين أكاديمي، معروف بأنه ضحيّة لحملات اللوبي الإسرائيلي، سابقة مرّت من دون اعتراض من تلاميذ وأساتذة الجامعة الأميركيّة الواقعين (والواقعات) تحت سلطة إدارة متكبّرة. والرئيس الجديد أعلن قراره عن تعيين وكيل الشؤون الأكاديميّة الجديد في الجامعة من دون بحث مهني من هيئات الجامعة. اتخذ قراره من عنده من دون لجنة اختيار.
وصمت فضلو في حديثه مع مارسيل (ولم يسأله الأخير) عن رضوخ الجامعة الأميركيّة لتصنيفات الإرهاب الأميركيّة عن «حزب الله» وتدخّلها في عمل الجامعة. إن التمويل الخارجي للجامعة الأميركيّة (أو لأي جامعة) يجب أن يكون من دون شرائط سياسيّة. لكن أموال المعونات الأميركيّة للجامعة تخضع للقانون الأميركي وليس للقانون اللبناني الذي يجب أن يسود في جامعة محليّة. ولقد حاولت الحكومة الأميركيّة من قبل أن تصنّف كل أهالي التلاميذ الذين يتلقّون معونات من «وكالة التنمية الأميركيّة» حتى تستثني منهم هؤلاء الموالين لحزب الله. وقبلت الجامعة الأميركيّة من دون اعتراض قرار محكمة أميركيّة في نيويورك ضد الجامعة لمخالفتها القوانين الأميركيّة ضد «حزب الله». والتلاميذ الذين يتلقّون معونات ماليّة من الوكالة المذكورة يُستدعون لاجتماعات دوريّة مع ممثّلين عن الوكالة ويخضعون لاستفسارات عن تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي (يُفرض على كل المُتلقّين للمساعدات الأميركيّة في الجامعة إضافة صفحة «الوكالة» كأصدقاء على «فايسبوك»، ما يتيح لممثّلي الوكالة التلصّص على حسابات الطلاّب لرصد درجة مخالفة السياسات أو القوانين الأميركيّة). هنا، لا يعترض فضلو ولا يتحدّث عن المعايير الأكاديميّة. وتُضاف هذه الفضيحة إلى فضيحة التجسّس الالكتروني في الجامعة، والتي لفلفتها الإدارة كعادتها. (وتزداد حاجة التلاميذ إلى المعونات الخارجيّة لأن الجامعة لا تقدّم إلا عشر منح كاملة بناء على الكفاءة).
إن الحلقة الترويجيّة عن الجامعة زخرت بالمديح الذاتي والادعاء الفارغ. ما معنى أن يتحدّث عميد كليّة الطب، محمد صايغ، مثلاً عن تحويل الجامعة إلى «هارفرد الشرق الأوسط»؟ ولماذا يكون هذا هدف الجامعة؟ وكيف يتوافق هذا الوصف مع رصد الجامعة لـ٢,٤ ميلون دولار فقط من ميزانيّة الجامعة للأبحاث. (سألتُ صديقاً في الهيئة التعليميّة في كليّة الطب في جامعة «هارفرد» عن نفقات مختبره للأبحاث في الجامعة فكان الجواب أنه يبلغ ٨٠٠٠٠٠ دولار في السنة الواحدة). إن نفقات أبحاث الجامعات البحثيّة هنا تفوق الميليار دولار، وحتى جامعة تعليميّة (غير بحثيّة) مثل جامعة ولاية كاليفورنيا في سان برناردينو تنفق نحو ١٥ مليون دولار في السنة على الأبحاث (إن نفقات البحث في الجامعة الأميركيّة في بيروت تتراوح بين العشرة والاثني عشر مليون دولار لو احتسبنا التمويل الخارجي للأبحاث في الجامعة). فلماذا الحديث عن جامعة بحثيّة مع أن الطموح هذا يتطلّب بنية أكاديميّة بحثيّة (وحتى حكوميّة) غير متوفّرة في لبنان؟ وسألتُ صديقاً في كليّة الطب في الجامعة الأميركيّة في بيروت عن تطوّر الأبحاث فيها، فقال إن معظمها هو أبحاث تطبيقيّة عياديّة (وبتمويل من شركات خاصّة). وتمويل الأبحاث الأساسيّة في الجامعة (خصوصاً في كليّة الطب) يكاد يكون معدوماً (مع أن لا أرقام موثوقة حول ذلك) فيما تذهب أموال «مؤسّسة الصحة الوطنيّة» الأميركيّة مناصفة تقريباً بين الأبحاث الطبيّة الأساسيّة والتطبيقيّة.
هناك أطباء وأساتذة ماهرون ومهنيّون (وماهرات ومهنيّات) في الجامعة لكنهم يفتقرون للتمويل البحثي والدعم الأكاديمي المطلوب والبيئة العلميّة التي يفترض أن توفّرها الجامعة للباحثين والباحثات. كما أن الرؤية المستقبلية للجامعة تعتمد اعتماداً كليّاً (وفي هذا يتوافق الرئيس الجديد مع عميد كليّة الطب) على بناء أسرّة الدرجة الأولى لكسب موارد السياحة الاستشفائيّة. والخلاف الأخير بين إدارة مستشفى الجامعة الأميركيّة وإدارة الضمان الاجتماعي يتعلّق بحجّة الجامعة الدائمة أن لا أسرّة لديها إلّا من صنف الدرجة الأولى. إن رؤية الجامعة تهمل ربط عمل الجامعة (في كل كليّاتها) بمحيطها العربي وحاجاته، وتحصر همّها بكيفيّة الاستفادة من المرضى الأثرياء من لبنان ومن الدول المجاورة (خصوصاً من العراق حيث تعمل الجامعة على جذب مرضاها). لكن الصديق في كليّة الطب في جامعة هارفرد يرى أن ذلك صعب لأن دول الخليج استقطبت بواسطة المال خبرات علميّة ورصدت مبالغ ضخمة (حوّلت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن إلى المرتبة الأولى في التصنيفات العالميّة بين الجامعات العربيّة) لفرع مستوى جامعاتها. والجامعة الأميركيّة، كما ورد في كلام فضلو، تبدو جاهلة عن تقدّم البحث الطبّي في إيران (بالرغم من الحصار والعقوبات) وفي تركيا. وقد ربطت بعض دول المنطقة مستشفياتها مع المستشفيات الأكاديميّة المعروفة في الغرب (مثل مستشفى الملك حسين في الأردن مع «مايو كلينيك»، أو كليّة الطب في جامعة كورنيل مع دولة قطر).
يستحق تلاميذ وطلاّب الجامعة إدارة أفضل بكثير. والخلل الرئيس يكمن في كيفيّة إدارة الجامعة، خصوصاً من قبل مجلس الأمناء في نيويورك الذي يدير الجامعة عن بعد ومن دون معايير أو شفافية. يتم اختيار رئيس الجامعة ووكيلها الأكاديمي من دون إشراك الهيئة التعليميّة في القرارات. حتى اختيار الحائزين على شهادات الدكتوراه الفخريّة، لا تتشارك فيه الجامعة في بيروت. القرارات تأتي جاهزة ومعلّبة من نيويورك (ومجلس الأمناء كان يريد منح زالمي خليلزاد، سفير الاحتلال الأميركي في العراق وأفغانستان، الدكتوراه الفخريّة قبل سنوات، لولا اعتراض البعض في بيروت في إدارة الجامعة ضد الاختيار).
ولا يمكن للجامعة أن تغيّر من واقعها وحقيقتها من خلال برنامج تلفزيوني يفتقر للمعايير المهنيّة. الجامعة في ترويجها الذاتي تلجأ إلى خدعة «الحلم الأميركي» (الذي يؤمن به فضلو حسب استشهاده غير المؤثّر باللوحة التذكاريّة على تمثال الحريّة الأميركي. أي أن شهادة القلّة المؤثّرة سياسيّاً من خرّيجيها تصبح كأنها هي القاعدة السائدة، ويصبح عدم جمع ثروة أو الوصول إلى مواقع وزاريّة هو الاستثناء). وتعتمد الجامعة في شهاداتها عن نفسها على الأثرياء والساسة الذين يريدون لنا أن نصدّق أن الجامعة كانت وراء أسباب «نجاحهم» — بالتعريف الرأسمالي. لكن: عندما تسمع مروان المعشّر (وكان ركناً بارزاً في النظام الأردني القمعي، وسفيراً في دولة العدوّ) تتساءل: هل الجامعة الأميركيّة هي التي دعت الملك الأردني يعتمد على خدماته أم الولاء والطاعة للنظام؟ (ومروان المعشّر اعتبر أن اليميني الرجعي، شارل مالك، الذي كان عضواً بارزاً في القيادة السياسيّة للميليشيات اليمينيّة في سنوات الحرب، كان رائداً من روّاد النهضة العربيّة). وهل تخرّج فؤاد السنيورة من الجامعة هو الذي دفع به إلى سدّة رئاسة الحكومة بل ولاؤه لآل سعود ولآل الحريري؟ طبعاً، إن الجامعة الأميركيّة هي المكان المناسب لتطويع وتعليب خرّيجين يتطابقون مع مواصفات الطاعة والولاء الرأسمالي. لهذا، فإن الشركات ترغب في توظيف خرّيجي وخرّيجات الجامعة في مواقع وسطيّة فيها. أما المواقع القياديّة في الشركات الكبرى في دول الخليج فهي حكر على أولاد الأمراء والشيوخ، وعلى الرجل الأبيض. لا أقلّل من مهارة الجامعة الأميركيّة في توفير عناصر طاعة في المؤسّسات الرأسماليّة الشرقيّة والغربيّة.
يمكن للجامعة أن تتطوّر وأن تنمو لو تربط برامجها بحاجات المحيط الحقيقيّة، لكن ليس على أساس الربح وجذب الأموال الخارجيّة. كما أن السياسة الماليّة للجامعة يمكن أن تتغيّر باتجاه تعزيز تمويل الفقراء وتقليص الاعتماد على «وكالة التنمية» التي تستعمل تمويلها للإمساك بقرارات الجامعة وخرق قوانينها وخصوصيّة طلّابها. أما الرئيس الحالي، فهو يرصد المال من أجل المزيد من الأبنية (قد تفوق أكلاف البناء الطبّي الجديد النصف ميليار دولار المعلنة)، وهو يزيد عدد الطلّاب بشكل ذريع (إلى نحو ٨٨٠٠، وهو رقم قياسي مما يقلّص نسبة الأساتذة إلى التلاميذ وهو معيار من معايير الجودة في التعليم) من أجل كسب المزيد من المال (بالإضافة إلى الزيادة المستمرّة في الأقساط). وتعزيز التعليم الجامعي في بلادنا يحتاج بصورة ماسّة إلى التنسيق بين الجامعات الخاصّة والرسميّة من أجل تنويع الاختصاصات وعدم تكرارها بصورة غير ضروريّة، بالإضافة إلى الربط بسياسة حكوميّة وطنيّة — أي لا تنتمي إلى سياسة خارجيّة لدولة ما تتدخّل في قرارات سياديّة. لكن الطبقة الرأسماليّة في بلادنا والعقليّة النخبويّة تعمد إلى نشر ثقافة النخبويّة لترسيخ التفاوت الطبقي، الذي لم يكن يوماً عفوياً — لا هنا ولا هناك.