كان غسان تويني، رحمات اللّه عليه، يقول: «الصحافة ليست تأريخاً، ولا تطمح لأن تكون. الصحافة هي، فقط، مرآة تعكس الواقع، وأكثر ما ينطبق هذا الواقع على الصحافة اليومية».
استحضرت هذا القول للصحافي اللبناني الكبير وأنا أقرأ في كتاب «مواد للبناء» للكاتب المستنير الصديق فهد الباشا (عن دار أبعاد في 333 صفحة من القطع الوسط).
ولا يحتاج القارىء الى «الإهداء» لـ «يقرأ» هوية الكاتب السياسية، ومع ذلك فقد أصرّ عليها في إهدائه كتابه إلى من أشعل، في صقيع ليالينا، ناراً «تحرق وتضيء»، لا جمرها يخبو ولا نورها ينطفىء. الى سعادة (…)». علماً أن كلّ عبارة في «مواد للبناء» تفصح عن إنتماء فهد الباشا «الملتزم» في زمن اللاإنتماء. وسواء أكنّا معه في إنتمائه فالتزامه، أم لم نكن، إلاّ أننا نقدّر هذه المبدئية عنده، ونثمنها، خصوصاً وأنه ليس من تجار الهيكل، بل الهياكل كلها: هيكل الحزب القومي، والهيكل اللبناني، وحتى هيكل الصحافة، وهو الذي كتب لوجه اللّه والكتابة وليس لأي وجه (عفواً: لأي جيب) آخر! ولقد كان لابدّ من «التوضيح والتنويه» بأن معظم مواد الكتاب نشرت في جريدة البناء الناطقة بإسم القوميين الإجتماعيين السوريين. من هنا كانت التسمية الموفقة «مواد للبناء».
اللافت في صدر الكتاب أقوال الذين «قالوا فيه»، وقد أجمعوا على إعطائه بعضاً من حقه… إلاّ أنّ ما لم يقله أحدٌ منهم (أنطوان بطرس، حيدر حاج اسماعيل، د. داليدا الباشا، د. ربيع الدبس، شوقي خيرالله، د. انطوان أبو حيدر، الياس دعبول، جان دايه، حسن عزالدين، الياس شلالا، د. افرام بعلبكي، الياس عشي، ود. بيار رفول) ما لم يقله أحد من هؤلاء انّ فهد الباشا ليس فقط كاتباً مجيداً، إنما هو كاتب خلوق، يهجس ابداً بالصفاء والنقاء. بل لعلّه صادق حتى… الطفولة، وقاطع كالسيف، وأديب كبير… فهو صاحب أسلوب رشيق، الكلمة تقع في موقعها حفراً وتنزيلاً، فلا لغو ولا حشو ولا استجداء البهرجة والتلوين، إنما كلام جاد، رصين، واع، مدرك يعرف ما يريد أن يقول، ويدرك الى أين يريد أن يصل…
من مشكلة فهد الباشا مع التاريخ حتى خلوة الأسئلة الكبيرة وما بينهما من مقالات تتناسل مقالات، تخال نفسك في بناء واحد متماسك، منسجم مبناه المتين مع معناه الراسخ، في أسلوب رشيق فيه تزاوج بين الأديب والصحافي، فلو شئت هذا لوجدته، ولو رمت ذاك لصادفته، وفي الحالين أنت في حضرة الكلمة الأنيقة الرشيقة، كاسرة البلادة وليس فقط مزراب العين! وتلك المقالات كلها، لكل منها شخصيّة، وموضوع قائم بذاته، إلاّ أنّها تبدو متكاملة، فما بينها أكثر من خيط رفيع، إنه خطٌّ مبدئي ملتزم صاحبه باستراتيجية واضحة.
وإذا كان متعذّراً عرض الكتاب في مقالاته، كلّها، فالحقيقة تقتضي الإعتراف بأنني قرأت «مواد» الأستاذ فهد الباشا بشوق. نحن كتبة المقالات (صحافيين محترفين كنّا أو لم نكن) نعرف أن هكذا «مواد» تُغرق قارئها، أحياناً كثيرة في دوّامة الملل. أما أنا فقرأت فهد الباشا بشغف.
فهد الباشا، هات المزيد.