تُشكّل أكثر من 50% من الدواء في السوق وMethotrexate آخر السموم
هل كنّا فعلاً بحاجة لتحذير منظمة الصحة العالمية قبل أيام عن وجود دفعة مزوّرة من دواء Methotrexate في السوق اللبنانية لنفقه؟ هل من يشكّ في أي حفرة دوائية أوقعنا أنفسنا أم تمّ إيقاعنا، لا فرق؟ الدواء هذا يُستخدم لعلاج الأطفال المصابين بالسرطان، ليس إلا. لكن لِمَ العجب؟ فعبارات الانقطاع والتهريب والتزوير باتت ملاصقة لكلمة «دواء» لدينا. الداء والدواء يتنافسان على قتل المريض بعبارات أخرى. هي الديستوبيا اللبنانية بأمرّ حللها.
قبل أيام عُقد اجتماع نقابي طارئ من قِبَل نقابات المهن الحرة والاتحاد العمالي العام وروابط التعليم ونقابة المعلّمين كخطوة تصعيدية تحذيراً من الانهيار التام. ما دعا إليه المشاركون في الاجتماع شمل التوقّف عن العبث في الدستور والعمل الجدّي على انتخاب رئيس للجمهورية في وقت تتداعى فيه القطاعات تباعاً فيما الناس تئنّ. لا نقاش في أحقّية المطالب تلك لكن أهذا كل ما نحتاج إليه؟ فمن، قبل كل شيء، يُفيق ضمائر مافيات التهريب والتزوير والمتاجرة بأرواح المرضى والأطفال- بالتواطؤ مع بعض الجهات الرسمية أو تحت جنح غض طرفها- من سباتها العميق يا تُرى؟
قبّة باط؟
نقيب الصيادلة، الدكتور جو سلوم، لا يكفّ عن رفع الصوت. وقد أعاد التذكير في حديث لـ»نداء الوطن» بهدر ما يقارب الـ8 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث الماضية نتيجة عمليات تهريب الدواء المدعوم من لبنان إلى البلدان المجاورة. وأضاف: «ما نشهده اليوم من اكتساح الأدوية المزوّرة للسوق اللبنانية هو «ردّة إجر» لما حصل من تهريب في ظلّ غياب الدواء الشرعي وذي الجودة، حتى أصبحت الأدوية المزوّرة تشكل أكثر من 50% من الدواء الموجود في لبنان حالياً». نقابة الصيادلة قامت بجولة تفتيش واسعة على الصيدليات والمستوصفات من ضمن حملة «مش كل دوا دوا»، وذلك للتأكد من خلوّها من أي دواء غير مسجّل. إلّا أن المشكلة، بحسب سلوم، هي في الأدوية التي تُباع في السوق السوداء وعلى مواقع التواصل الاجتماعي: «وكأن هناك «قبّة باط» من كافة القوى لسماح دخول الدواء غير المسجّل إلى لبنان بحجة أن ليس لدينا دواء»، على حدّ قوله.
على من تقع مسؤولية فلتان سوق الدواء؟ على الجميع دون استثناء، يقول المتابعون. من جهتها، بادرت نقابة الصيادلة في وضع عدة خطط ودراسات جاء أبرزها في خلال مؤتمر «هوية لبنان الدوائية» الذي عُقد في أيار الماضي، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية والشركات العالمية والمصانع ووزارة الصحة. والخطط نصّت على إيجاد شراكة كاملة بين كافة القطاعات والحفاظ على المكاتب العالمية التي تضمن نوعية الدواء ومراقبته في الأسواق كذلك نوعية وجودة الدواء المبتكر، فضلاً عن تشجيع وتحفيز الصناعة المحلية التي تُعتبر الحجر الأساس. هذا ممتاز، لكن كيف السبيل إلى التنفيذ؟
الفاعل… مجهول
في هذا السياق يشير سلوم إلى أن وضع الخطط موضع التنفيذ يتطلّب انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات للتمكّن من عقد مؤتمر للمانحين وتأمين دعم لأدوية السرطان وتمويل البطاقة الصحية في حال تم إقرارها. وتابع: «ليتحمّل كل من يتقاعس عن القيام بدوره مسؤولية كل طفل جائع وكل مريض يتألم وكل شخص يلجأ الى الدواء المزوّر والمهرّب بسبب عدم قدرة المسؤولين على تأمين الدواء الجيد له».
انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة في ثلاجة الانتظار حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. والرهان على تطوّر ما أشبه بالضرب في الرمل. لكن سلوم اعتبر أن وزارة الصحة تقوم بالجهود اللازمة على الرغم من أن المضايقات والعراقيل في وجه لجم آفة التزوير كثيرة. والأخطر من ذلك هو انعدام الإمكانية لدى المواطن، الطبيب أو حتى الصيدلي للتأكد من تركيبة وفاعلية دواء ما. فهذا شأن مناط حصراً بالمختبرات وحدها. وأردف مستغرباً: «المضحك المبكي في موضوع التهريب أننا لا زلنا نجهل لغاية اليوم من قام بتهريب أدوية بقيمة 5 مليارات دولار إلى الخارج، في وقت لم يُعاقَب أحد ولم تتبنَّ أي جهة مسؤوليتها عن الموضوع».
دوامة توزيع الأدوار
رئيس الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية، الدكتور اسماعيل سكّرية، يذهب أبعد من ذلك. فقد وصف في اتصال مع «نداء الوطن»، الأزمة بـ»مجزرة الأسعار الدوائية بالختم الوزاري». وعزا ذلك إلى سنوات من توزيع الأدوار بين كل من وزارة الصحة وحاكم مصرف لبنان وتجّار الأدوية. «هذه الدوامة المملّة التي أدخلونا فيها رغم تصاريحهم الكاذبة، أضف إليها تغطية تهريب الأدوية المدعومة، كذلك تهريب الدواء المحلي وإفراغ السوق اللبنانية منه، ناهيك بعملية التخزين التي ستنتهي صلاحية مخزونها في الشهرين المقبلين كحدّ أقصى، كلها عوامل جعلتهم يحقّقون أرقاماً خيالية تصل إلى حد مليارات الدولارات حارمين الشعب اللبناني من الدواء»، كما يقول.
إدارة الجمارك لم تسلم بدورها من سهام سكّرية. فقد حمّلها جزءاً كبيراً من المسؤولية كون الأدوية لم تعد تدخل لغرض الاستخدام الشخصي بل يغلب عليها الطابع التجاري، مضيفاً: «هناك تجّار يدخلون الأدوية بكميّات هائلة وإدارة الجمارك تعرف ذلك. الكل غاطس في الفساد ونأسف لهذه القسوة وانعدام الإنسانية في التعاطي، كمن يريد أن يحلبها حتى الفلس الأخير». والنتيجة هي: أدوية مفقودة، أخرى تُستورَد من الخارج مع احتمال خضوعها لعمليات غش، وأدوية سوق سوداء مهرّبة ومزوّرة ولا قدرة لأحد على معرفة تركيبتها سوى المختبر المركزي. وهو مختبر مغيّب الدور بقرار مافيوي سياسي، من وجهة نظر سكّرية.
نعود إلى تحرّك النقابات في ظلّ القرار المافيوي ذاك لنسأل سكّرية بما يشبه تساؤل العارف عن جدواه. ويجيب بأن ربط اجتراح الحلول بموضوع انتخاب رئيس للجمهورية أجهض الفكرة الأساسية من التحرّك: «نعم يجب أن يكون لدينا رئيس لكن ما الذي سيتغيّر بعد انتخابه؟ هل نسينا أن الأمور كانت كارثية حتى مع وجود رئيس قوي؟». لا، لم ننسَ.
الحل الاستثنائي
من أين تأتي الحلول إذا؟ «الحلّ هو في الدخول مباشرة في صلب الموضوع، وفي تسمية التجّار المحميّين بخطوط حمراء وبالأسماء. والحلّ أيضاً في أن يتجرأ وزير الصحة ويتّخذ موقفاً تاريخياً لمرة واحدة مفصحاً عن الحقيقة، كاشفاً الفساد ومتّخذاً القرارات الصائبة. كما أن الحلّ في محاسبة حاكم مصرف لبنان ونزع الغطاء السياسي عنه». لكن ماذا عن الحلول التي تتحدّث عنها النقابات؟ لا شك أن الحلول التي تُطلق صحيحة في المضمون لكن التساؤلات تكمن حول كيفية تطبيقها على وقع الأزمة غير المسبوقة. وإذ رأى سكّرية في تفعيل البطاقة الصحية أحد أبرز تلك الحلول استبعد أن يكون للمستشفيات الحكومية القدرة، في وضعها الحالي، على استيعاب المرضى حاملي البطاقات، وأن تملك الدولة مصادر تأمين المبالغ لتغطية تكاليف البطاقة لفترة لا تقلّ عن خمس سنوات ضمانة لاستمراريتها ونجاحها.
استعصاء الحلول الشاملة يستدعي العمل على حلّ استثنائي وطارئ لمدة 6 أشهر، برأي سكّرية. فالسبيل الوحيد للنهوض بالوضع الصحي يتمثّل أولاً برفع ما تبقّى من دعم على بعض المواد الاستهلاكية الثانوية (مبيّضات القهوة، السومون المدخّن والكاجو مثالاً) واستبداله بدعم الدواء الذي لا يمكن الاستغناء عنه. ويتزامن ذلك مع استرجاع الاتصالات مع دولة السويد وغيرها من الدول التي عرضت منذ سنوات بيع لبنان أدوية السرطان من دولة إلى دولة، ما يوفّر 50% من ثمنها. طبعاً، رُفض ذلك آنذاك لأنه يحدّ من الصفقات وعمليات السمسرة. ناهيك بوضع لائحة الأدوية الأساسية التي يجب أن تلتزم الدولة بتأمينها وإعادة تفعيل المختبر المركزي ودعم الدواء المحلي شرط مراقبته.
صرخة ضدّ الساعة
اللائحة طويلة ولا ندري إن كان ثمة قدرة أو نية للشروع بها. وهذه صرخة من سلوم في الأثناء: «لا نريد أي دواء بديل أياً كان مصدره قبل التأكد من نوعيته وجودته. لا تفتكوا بالبلد من خلال قرارات عشوائية تقضي على القطاع الصحي والصيدليات والمستشفيات أياً كان السبب. أوقفوا التهريب وأمّنوا الدواء ولكن الجيد منه. الاجتماع النقابي لن يكون يتيماً بل ستليه تحركات ضاغطة متصاعدة. سنبقى نقول في العلن ما يقوله غيرنا في السر، لكن نطلب من الناس مؤازرتنا لنتمكن من تأمين الدواء محافظين على كرامتهم دون إذلال. كفى عذاباً وانتهاكاً لأبسط الحقوق الإنسانية».
من ناحيته، لا يرى سكّرية بدّاً من استنهاض ثقافة المواطنة لدى اللبنانيين من خلال العمل على فتح الباب أمامهم لمناقشة مشاكلهم اليومية، صحية كانت أم سواها، وسبل مواجهة الفساد. «المطلوب من المواطنين – الضحايا التكاتف لإيصال الصوت والمحاسبة. فلو كان هناك من يُحاسِب لما وصلنا إلى هنا».
لكن الواقع لا يرحم ولا ينتظر. وتراجع لبنان من المركز 33 في 2019 إلى المركز 50 حالياً بحسب مؤشر الرعاية الصحية العالمي دليل على ذلك. أما المرضى وذووهم، فلا يأبهون بالمؤشرات والخطط والمشاريع والآليات. كثيرون ممّن سألناهم يبقى هدفهم الأول والأخير الوصول إلى الدواء… أي دواء. وإن لم يكن من لبنان، فمن الهند أو تركيا وما قبلهما وبعدهما. وعلى الجودة السلام.