«ليلة عيد العمال تعمّ العالم التظاهرات والتحركات، بينما يحتفل به الاتحاد العمالي في لبنان في صالة مبرّدة، تُحجز صفوفها الأولى للسياسيّين وممثليهم، وينتهي بكوكتيل، فيما يغيب العمّال عنه». هذا ما يختصر به أحد النقابيين «العتاق» الوضع النقابي في لبنان وعمليّة التدجين التي خضع لها، سائلاً «كيف لنا كعمّال أن نرفع الصوت في وجه السلطة، في حين أن الاحتفال يكون في كل سنة برعاية أحد رؤسائها»
يتذكّر النقابي العتيق أيام السبيعينيات، «حين كان العمال ينزلون مع عائلاتهم للاحتفال بالطبل والزمر ويجوبون الشوارع في الحمراء وسواها». يستخدم ذاكرته للمقارنة مع الوضع الذي وصلت إليه الحركة النقابية. وفق النقابي نفسه، حصل التحوّل في مشهد العمل النقابي العمالي اعتباراً من عام 1993، بعد ترخيص وزير العمل حينها عبدلله الأمين لسبعة اتحادات جديدة، إذ «تطوّر الاتحاد العمالي العام من 9 اتحادات نقابية في 1970، إلى 21 اتحاداً في 1993، وإلى 28 في 1997 استمرّت هذه السياسة حتى وصل العدد إلى 37 اتحاداً نقابياً في 2000» (زبيب وبدران، 2001). الاتحاد العمالي العام بات يضمّ اليوم نحو 49 اتحاداً وفق لائحة الاتحادات الأعضاء في المجلس التنفيذي لعام 2018. تضمّ وفق تقديرات مصادر الاتحاد «نحو 450 نقابة، أو نحو 600 نقابة إذا احتسبنا معها نقابات أصحاب العمل والحرفيين، في مقابل انخفاض أعداد المنتسبين إلى النقابات والعمال بشكل عام». الازدياد المطرد في أعداد النقابات والاتحادات النقابية وبدلاً من أن يكون عاملاً مساعداً لتنشيط الحركة النقابية، يختصره النقابي العتيق بالجملة التالية: «زاد الرأس تورّماً والجسم ضعفاً»، بالنسبة إليه «كان عام 1993 حاسماً في انحسار هامش الحركة النقابية اللبنانية، تلته فترة تجاذبات بين طرفَي السلطة بين عامي 1993 و1997، انتهت بسيطرة أحزاب الأمر الواقع على الحركة النقابية».
أنجل بوليغان ــ المكسيك
ضعف الحركة النقابية يرتبط حكماً بمسار الاتحاد العمالي العام في لبنان الذي يحتكر تمثيل العمال، هذا الاتحاد يتألف من مجلس تنفيذيّ «يتألف من مندوبَين اثنين عن كل اتحاد منتسب» (المادة 14 من القانون الأساسي للاتحاد العمالي العام)، وقانونه بذلك يساوي في التمثيل بين الاتحادات الفاعلة والاتحادات الوهميّة. فعلى سبيل المثال، يتمثّل اتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان «الذي يضمّ نحو 9 آلاف منتسب» بعضوين في المجلس التنفيذي، تماماً كما يتمثّل اتحاد عمال ومستخدمي الصناعات الورقية في لبنان «المشكّل من 3 نقابات ويضمّ نحو 100منتسب» وفق مصادر الاتحاد.
التأثير الحزبي/ المذهبي على الاتحاد العمالي العام، ينسحب على هيئة مكتب المجلس التنفيذي، التي تضمّ 12 عضواً ينتخبهم المجلس التنفيذي من بين أعضائه (المادة 21 من القانون الأساسي للاتحاد)، ولكن «بدلاً من انتخاب أعضائها يجري تعيينهم أو تزكيتهم بالاتفاق بين الأحزاب الثلاثة الأساسية المسيطرة على الاتحاد». انعكاس التطويع الحزبي على حركة الاتحاد، يُضاف إليه أن مورده المالي الوحيد هو «الدولة اللبنانية التي تمنحه سنوياً 500 مليون ليرة، ارتفعت هذا العام إلى مليار ليرة!» وفق معلومات «الأخبار». الأمر الذي يطرح السؤال حول إمكانية معارضة الاتحاد للسلطة والحفاظ على استقلاليته.
مشكلة تمثيل الاتحاد العمالي العام للاتحادات النقابية العمالية (اتحاد اتحادات الأجراء)، تظهر جليّاً لدى الاطّلاع على لائحة أعضاء المجلس التنفيذي للاتحاد، أي الاتحادات النقابية الـ49، هذه الاتحادات تحمل أسماء مكرّرة ومعظمها مشكّل بالحد الأدنى من النقابات (3 نقابات لتشكيل اتحاد)، وهي غالباً تجميعات ليس من رابط بينها مثل «اتحاد النقابات العمالية للخدمات العامة في لبنان» (يجمع نقابات عمال شركة الترابة الوطنية، مستشفى أوتيل ديو والصناعة الإلكترونية). «اتحاد النقابات العمالية للنقل البحري» يضمّ بدوره 3 نقابات فقط بمجموع نحو 150 منتسباً. «اتحاد نقابات العاملين في زراعة التبغ والتنباك» (يرأسه نائب رئيس الاتحاد العمالي العام حسن فقيه) وهو ليس اتحاد أجراء ومع ذلك هو منتسب للاتحاد العمالي العام. «اتحاد نقابات مستخدمي وعمال البترول» مثال آخر على الاتحادات الوهمية «إذ لا يوجد بترول ولا عمال بترول» وفق مصادر الاتحاد العمالي العام.
يضمّ الاتحاد العمّالي 600 نقابة في مقابل انخفاض أعداد المنتسبين
الأمر يصبح أكثر طرافة مع «اتحاد نقابات العمال والمستخدمين في الشمال» (4 نقابات حقيقية من أصل 23)، إذ «يضمّ نقابة عمال صناعة صناديق الخشب للفاكهة والخضار، علماً أن المهنة انقرضت، ونقابة عمال كراسي الخيزران ونقابة دهاني الديكو والليسترو وهي مهن انتهت وبقيت نقاباتها». وقد تشكّل بوجه اتحاد الشمال، سياسياً، «اتحاد عمال النقابات الوطنية في الشمال» ويضمّ بدوره سائقين ليسوا أجراء. إلى ذلك ثمة «الاتحاد اللبناني لنقابات سائقي السيارات العمومية ومصالح النقل» وهو اتحاد فئات خاصة وليس أجراء. اتحاد نقابات قطاع الفنادق ودور التغذية واللهو في لبنان، الذي «يطلق مواقف ضد العمال الأجانب في لبنان والمزاحمة الأجنبية، في حين أن المشكلة يجب ألا تكون بين الضحايا أنفسهم، بل للمطالبة بالمساواة وتأمين الأجر العادل لجميع العمال ومنحهم الحد الأدنى والضمان».
المشكلة الأبرز التي أثرت على العمل النقابي في لبنان، يربطها النقابيون بـ«الضعف البنيوي التاريخي في قطاع الصناعة»، وتشكّلِه من مؤسسات صغيرة لا تضمّ أعداداً كبيرة من العمال ولا تكون نواة للتحركات والتمركزات الأساسية للعمال. ويرى الباحث والخبير النقابي د. غسان صليبي أن «الأزمة الاقتصادية بحدّ ذاتها عائق أمام الحركة العمالية والقدرة على المطالبة، ففي ظلّ الأزمة تصبح حجج أصحاب العمل أقوى لصرف عمّالهم». وبالمقارنة بما وصلت إليه الحركة النقابية في السنوات الأخيرة، يقول: «لا شيء تغيّر عن السابق، الضعف مستمرّ في الحركة النقابية، فالنقابات الفاعلة لا يمكنها التشكّل في المؤسسات الصناعية الصغيرة… العمل النقابي غير منظّم في القطاع الخاص». ووفق ورقة بحثية أعدها صليبي يتبيّن «أن 53% من الاتحادات النقابيّة مذهبيّة، وهي اتحادات بلا وظيفة ولا تحرّك ولا مطالب ولا برامج، ما خلا بعض الاتحادات المذهبيّة أو الحزبيّة القطاعية». أما الأسباب، وفق صليبي، فهي «جملة من التراكمات والخلل البنيوي والطائفية، فتحرّك الناس يحتاج إلى فهم عميق للأزمة وقدرة على التحرّك، فيما مواقف السياسيين والخبراء الاقتصاديين تتبدلّ من يوم إلى آخر. لسنا بمستوى مواجهة أزمة من هذا النوع لا على صعيد الأفراد ولا النقابات ولا المجتمع المدني». ويضيف «ثمة تباعد كبير بين حجم المعاناة الاقتصادية التي نعيشها وتدنّي مستوى المواجهة والتحرّك. يجري التصرّف وكأننا غير مقبلين على انهيار، وتقوم بعض التحرّكات بالتظاهر من دون أفكار جديدة للضغط والمطالبة».
من ملف : عمّال لبنان: 100 سنة إلى الوراء