Site icon IMLebanon

«الفاخوريّون» الذي أعادوا إحياء «الخيام»… للتأريخ

 

 

قبل 17 عاماً، نشر أسير شهادة تعذيبه داخل معتقل الخيام، وفيها سجاله مع العميل عامر الفاخوري هناك، على وقع الدم والنار والدخان. شهادة فيها إشارة قويّة إلى شخصيّة الفاخوري اللئيمة. العميل الذي أعاد أحياء ذكر «الخيام» بكل ما انطوى عليه، آلام وغصّات لا يزال أصحابها أحياء بيننا، ولعلّ في ذلك تكون فائدة وحيدة مِن عودته… للتأريخ

 

قال له الأسير: «نحن ننتفض لأنّكم تسرقون الطعام». ردّ عليه السجّان: «نحن نطعمكم شفقة. ليس لكم حقوق عندنا. نريدكم أن تموتوا… ويُمكننا تحقيق ذلك ساعة نريد». الأخير يستغرب سبب انتفاضة الأسرى. يسألهم غاضباً عن ذلك. كأنّه لا يعلم أنّهم جوعى، وأنّهم، بأمر منه هو، لا يحصلون على قوت يومهم. هل في تاريخ المعتقلات انتفاضة أكثر تواضعاً مِن هذه، الطعام فقط، وهل هنالك خسّة أكثر مِما قاله ذلك السجّان! حصل هذا عام 1989. المكان: معتقل الخيام (جنوب لبنان). الأسير اسمه عمر الخالد، أمّا السجّان، التوّاق لموت الأسرى، فهو المسؤول العسكري في المعتقل المذكور… العميل لإسرائيل عامر الفاخوري.

 

 

 

إن كان لعودة الفاخوري من «فائدة» فهي أنها أحيت ذكر معتقل كاد يطويه النسيان (أ ف ب )

 

خلال الشهر الماضي كثيرون سمعوا باسم الفاخوري للمرّة الأولى، إثر خبر عن عودته إلى لبنان. لكنّ الأسير (المحرّر لاحقاً) عمر الخالد كان كتب شهادته، بخطّ يده، وأذاعها عام 2002 أمام جهة حكوميّة تابعة لكندا تُعنى بجرائم الحرب (مؤرشفة لدى مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب). مِن أين أتت للأسير شجاعة أن يُساجل ذلك السجّان، بقوله له أنتم تسرقون الطعام، فيما رائحة الموت تعبق في زنازين المعتقل، ورائحة القنابل الدخانيّة التي قتلت، اختناقاً، الأسيرين بلال السلمان وإبراهيم أبو العز، تملأ المكان. في شهادة الخالد أنّه قضى في ذلك المعتقل أكثر مِن ثلاث سنوات، وأنّ الفاخوري، إلى جانب مسؤوليته العسكريّة عن المعتقل، كان يتولى مسؤوليّة الشرطة والتحقيق والتموين. كان هو «الذي يأمر بضرب المعتقلين. تعرّضت للضرب بالكرباج بناء لأوامره». في شهادته أيضاً أنّه رأى لحظة كسر رجل الأسير محمد صالح، تحت التعذيب، وكيف أنّ لون جسده أصبح أزرق. يذكر جيّداً اسم العميل انطوان حايك، وهذا كان شرطيّاً (نظاميّاً في لبنان) قبل أن يُصبح عميلاً جلاداً، على أنّه هو مَن رمى تلك القنبلة، القاتلة، بناء لأوامر الفاخوري. أكثر بعد، الأخير كان هو صاحب الأمر، بعيد استشهاد الأسيرين المذكورين، بجمع كلّ الأسرى في الساحة وضربهم بالسياط والعصي. لم ينس أن يأمر، قبل مباشرة الضرب، برش الماء البارد على الأجساد الهزيلة لمزيد مِن الألم. ليس تفصيلاً أنّه فعل ذلك بعد قتله لشخصين، إذ لا ندم، لا تأثّر، لا مراجعة للذات، بل مزيد مِن الساديّة بأقذر صورها. هذه تُعطينا لمحة عن أي نفسيّة ينطوي عليها ذلك الكائن.

 

أشياء عن «الخيام»

مَن قال إنّه ليس لعودة الفاخوري إلى لبنان منافع؟ صحيح أنّها أعادت فتح جروح، كنّا نظنّها، نحن الذين لم نُجرَح، أنها برأت، فإذا هي عند أصحابها غضّة طريّة. هبّ الأسرى المحرّرون وقالوا مهلاً. الألم لا يؤلم إلا صاحبه. تبقى لعودته فائدة بأنّها أحيت ذكر معتقل كاد يطويه النسيان. هناك جيل لم يسمع باسم الخيام، والآن هذه فرصته، ووحده «غوغل» يعلم كم اشتغل بحثاً في الآونة الأخيرة. ذاك المعتقل أصبح المعتقل المركزي للاحتلال الإسرائيلي، على الأراضي اللبنانية المحتلة، إثر إقفال معتقل انصار. كان ذلك عام 1985. أداره الجيش الإسرائيلي مباشرة مدّة عامين. بعدها أوكل الإسرائيليون المهمة إلى جهاز العملاء (ميليشا انطوان لحد). كان يضم، حتى منتصف التسعينات، مئات الأسرى، أكثريتهم الساحقة مِن اللبنانيين، إلى جانب 12 فلسطينياً 3 سوريين وأسير جزائري (تتبدّل الجنسيّات والأسماء نتيجة الدخول والخروج وعمليات التبادل مع المقاومة). كان يضم أسرى مِن الذكور والإناث (حوالي 15 امرأة) ومِن مختلف الفئات العمريّة (طاعنون في السن وأطفال).

قال الفاخوري لأسراه: نحن نطعمكم شفقة، نريدكم أن تموتوا، ويُمكننا تحقيق ذلك ساعة نريد

المعتقل يتألّف (قبل تدمير أجزاء منه عام 2006 بقصف إسرائيلي) مِن 67 زنزانة جماعيّة و21 زنزانة إنفراديّة، إضافة إلى غرف التحقيق والمطابخ والمراحيض وغرف الحرس. غرف التحقيق يعني غرف التعذيب. إطفاء السجائر في صدر الأسير ووجهه كان سلوكاً مألوفاً. التعذيب بالكهرباء كذلك، إذ تُربط الأسلاك بالأصابع وباللسان وبالأعضاء التناسليّة… ثم يأتي الصعق. كثيرون هناك فقدوا قواهم العقليّة. هذه شهادات الذين نجوا مِن ذاك الجحيم. في أرشيف الوكالة الوطنيّة للإعلام نجد، قبل أكثر مِن عشرين عاماً، سرداً لما أمكن جمعه مِن تلك الشهادات على لسان الأمين العام لمركز الخيام محمد صفا. كان ممنوعاً على الصليب الأحمر أن يدخل معتقل الخيام لفترة طويلة مِن الزمن. في لائحة المعذّبين آنذاك، ترد مراراً عبارة «فقد بصره» أو «فقد عينه» إلى جانب الكثير مِن الأسماء، ما جعلنا نسأل عن سبب تكرار هذا الوصف. إنّه الضرب على الوجه، ركل الوجوه، حيث العيون، وأصحاب تلك الوجوه المعذبّة لا يزال بعضهم على قيد الحياة. كذلك الفاعلون لا يزالون. كلّهم يعيشون بيننا. كثيرة هي مواضينا، نحن الذين نعيش هنا، التي لم تصبح ماضياً بعد… والتي لا يبدو أنّها ستُصبح كذلك قريباً.