لم يبقَ في القاموس، عبارة تتعلق بالأمن إلا واستخدمت من قبل السياسيين، والوزراء الذين تعاقبوا منذ الاستقلال وما قبله على وزارة الداخلية المعنية مباشرة بالأمن، فقيل الأمن سياسي أولاً وآخراً وقيل الأمن بالتراضي لا سيما في بلد كلبنان قائم على مجموعة طوائف، كل واحدة منها تتمتع بصلاحيات شبيهة بصلاحيات الدولة، ثم قيل الأمن الاستباقي إذ يتوجب على الدولة أن تحصّن الوضع الأمني في خطوة إستباقية لمنع الإخلال به من قبل المجموعات الخاضعة لسلطة الدولة.
وعلى مر السنين استخدمت دولتنا كل هذه التسميات ولم تفلح في واحدة منها بقدر ما حصدت نتائج عكسية بحيث ظل الأمن هشّاً، وظلت الدولة عاجزة عن الإمساك بزمامه وضبطه بقوة القانون الذي يجب أن يطبّق على الجميع من دون تمييز ويكون رادعاً لكل من تسوّل له نفسه ارتكاب حماقات، ومعنى ذلك أن القانون يسري على الجميع، ولا يوجد إناس فوقه يرتكبون الموبقات، ويتلاعبون بأمن الناس والبلد والدولة، صاحبة السلطة العليا عاجزة عن فرضه على الجميع بقوة القانون وتجريم كل من يحاول أن يعبث به بإنزال العقوبات التي تشكل رادعاً للجميع.
وعندما لم يثمر ذلك على أرض الواقع وبقيت الفوضى الأمنية سائدة، وبقي إناس فوق القانون يعيثون بالأمن ولا من يجرؤ على وقفهم عند حدّهم وتنفيذ القوانين بهم، انطلقت في الأندية وبين الناس تسمية جديدة للأمن وهي أن هيبة الدولة توفّر الأمن و عندما تسقط هذه الهيبة يسقط معها الأمن، ويصبح كل مواطن مدعوم من هذه الجهة النافذة أو تلك صاحب السلطة والسلطان.
وبعد الحرب الأهلية حيث تلاشت الدولة، وتحوّل لبنان إلى مجموعة مقاطعات أو غيتاويات، لكل منها نظامه وقوانينه، ارتفعت صناعة الأمن الذاتي وصارت كل مقاطعة أو غيتو وكانتون مسؤول عن أمنه لوحده، وعبر قيادته المحلية، وصار يُطلق على الأمن عبارة الجزر الأمنية، ويقصد بذلك الكانتونات التي خرجت عن سلطة الدولة المضمحلة أو المتلاشية وحتى الغائبة تماماً عن الصورة، وظلت هذه التسمية سائدة بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب ووضع خريطة إعادة بناء الدولة على الورق، وما زال الوضع رغم مرور أكثر من خمسة وعشرين عاماً على حاله، لا دولة بالمعنى الصحيح لمفهوم الدولة، بل دويلات تحظى بنعم الدولة وبمالها ولا تلتزم بقوانينها، بل بالقانون الذي فرضته غصباً عن الدولة وخارج كل قوانينها وأكثر من ذلك تحوّلت الكانتونات التي أوجدتها الحرب الأهلية الى مناطق نفوذ وجزر أمنية خارجة عن الدولة وكل قوانينها وعادت نغمة البحث عن الأمن ومفهومه الى التداول في صفوف الذين يتولون مسؤولية الأمن من وزراء داخلية كمعنيين مباشرة بهذا الأمر وحكومات تعاقبت على السلطة منذ سريان إتفاق الطائف وتوقف الحرب الأهلية.
وكل التجارب التي مرّ بها لبنان منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم لفرض هيبة الدولة، وجعل القانون فوق الجميع، ويطبّق على الجميع بدون استثناء، باءت بالفشل حتى في الخطط الأمنية التي وضعتها الحكومات كخطة طرابلس وخطة البقاع الشمالي، وخطة جمع السلاح غير الشرعي، وخطة حلّ الميليشيات، وخطط الأمن بالقوة والأمن السياسي وكل التسميات الأخرى، وبقي فقط الأمن بالتراضي وهو أسوأ ما في الأمن، لأنه يُنهي تماماً وجود لها كما هو حال دولتنا العلية، حيث لا أمن ولا سلام ولا استقرار بل فوضى وغابة، فإلى متى يمكن لهكذا دولة أن تستمر.