أقلية متراصة في مناطق يشكل فيها أكراد العراق وسوريا أكثرية، يسعون منذ عقود إلى حكم ذاتي أو استقلال في أماكن تحدّها دول متنازِعة. إنها معضلة الأكراد التاريخية منذ مطلع القرن العشرين في زمن التحولات الكبرى بعد انهيار السلطنة العثمانية ونشوء دول جديدة في المنطقة. مسار التطورات الإقليمية والدولية في السنوات الأخيرة تبدو هذه المرة لمصلحة الأكراد وتطلعاتهم، خلافاً لمراحل سابقة عندما أتت الأحداث ومصالح الدول النافذة على حسابهم.
لم يهدأ الأكراد في سعيهم لإقامة حكم ذاتي والاعتراف بهم كشعب ذي هوية مختلفة عن الهويات الأخرى في العراق وبلدان الجوار. اصطدموا مع الأتراك في زمن صعود القومية التركية التي أنتجت الدولة الحديثة بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك)، ومع العرب والبريطانيين بعد قيام دولة العراق في مطلع عشرينيات القرن الماضي بدعم بريطاني وبقيادة الملك فيصل بعد الصدام مع فرنسا في سوريا.
في التحول الثاني، خلال الحرب العالمية الثانية، سعى أكراد إيران في منتصف الأربعينيات إلى حكم ذاتي في «جمهورية مهاباد»، المدعومة من موسكو، والتي لم تدم طويلاً مع التعارض بين سياسات الدول الكبرى والمصالح الكردية بعد انتهاء الحرب الكونية. في العراق المعاصر برز الأكراد مكوناً سياسياً فاعلاً في عهد عبد الكريم قاسم. وفي حقبة البعث بعد العام 1963 تم استهداف الأكراد وغيرهم ممن عارضوا النظام الحاكم. لم يتراجع الأكراد عن مطالبهم، ومنها الاعتراف باللغة الكردية، وحصلت مهادنة ظرفية بين الحكومة العراقية والأكراد في 1970، وسرعان ما تجدّد الصدام وساءت العلاقات بين بغداد وطهران. وما إن توقف الدعم الإيراني للأكراد وتم توقيع اتفاقية الجزائر في 1975، التي أتت لمصلحة طهران، حتى عاد التوتر بين الأكراد وبغداد إلى سابق عهده.
التحول الثالث جاء بعد حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي في 1991. أدت الحرب إلى تراجع نفوذ صدام حسين في شمال العراق الذي خضع لحظر جوي، ما أعطى الأكراد هامشاً للانطلاق من جديد وبغطاء دولي، بعدما استعمل صدام حسين السلاح الكيمائي لضرب الأكراد في حلبجه في 1988. الاجتياح الأميركي في 2003 وسقوط النظام العراقي فتحا آفاق التغيير واستعادة المبادرة في مناطق الشمال حيث أعطى النظام الفدرالي العراقي الجديد حكماً ذاتياً لكردستان في إطار دولة واحدة، وإن بقيت بعض المناطق في دائرة النزاع، لا سيما كركوك حيث الثروة النفطية فوق الأرض وتحتها.
الحرب السورية منذ 2011 أتاحت مواقع نفوذ جديدة للأكراد، بعد عقود من التهميش، فباتوا القوة الضاربة، خصوصاً في مناطق الحدود بين سوريا وتركيا، المتاخمة لدولة الخلافة الداعشية. تصدّى الأكراد للتنظيمات التكفيرية بدعم أميركي وغربي في مواجهة تركيا التي تدعم هذه التنظيمات في السر والعلن، وهي تتصدى للإرهاب المتمثل حصراً بالأحزاب الكردية. حرب تركيا على الإرهاب المتمثل بالأكراد تشبه حرب إسرائيل على الإرهاب المتمثل بالفلسطينيين. الصدام التركي – الكردي بلغ أوجه في عهد الرئيس أردوغان، داخل البلاد مع حزب الشعوب الديموقراطي، وخارجها مع الأحزاب الكردية، لا سيما حزب العمال الكردستاني بقيادة زعيمه المسجون عبدالله أوجلان ومناصريه في سوريا والعراق.
جاء الربيع العربي وتحول خريفاً عاصفاً في سوريا حيث الحروب مشتعلة لأسباب تبدأ بالمحلي لتصل إلى الإقليمي والدولي. أوضاع أكراد مطلع القرن الحادي والعشرين تختلف عن أوضاعهم مطلع القرن العشرين، فلا يمكن تجاهلهم في أي معادلة جديدة قد تنشأ، بمعزل عن شكلها ومضمونها. لن تعود عقارب ساعة أكراد العراق وسوريا الى الوراء، على رغم الصراعات الداخلية المتفاقمة بين القوى السياسية في كردستان العراق وأُفول نجم القادة التاريخيين، أبرزهم البارزاني والطالباني.
قضية الأكراد اليوم ثابتة ومعترف بمشروعيتها دولياً، كما أن الجغرافيا لمصلحتهم من الناحية الاستراتيجية، إضافة إلى دعم الدول الكبرى. تصدّي الأكراد لداعش ومناصريه، وبالتالي لخطر الإرهاب المعولم، يعطيهم حصانة دولية في زمن التحولات الحافلة بالمطبّات والمفاجآت. انقلبت المعادلة التي سادت منذ نحو قرن. خريف العرب قد يكون ربيع الأكراد، ولو بعد حين.