إذا كانت سوريا ذاهبةً إلى جولة قتال جديدة، فهذا يعني أنّ الحرب الأهلية تحتاج إلى وجود كلّ عناصرها: إلى النظام وأنصاره الوافدين من الخارج، والمعارضة بتفريعاتها المتنافرة والمربوطة بقوى إقليمية، وأيضاً «داعش» الغامضة المنشأ والهيكلية والاستهدافات. ولذلك، لا قيمة حقيقية للوعد والوعيد اللذين يطلقهما أوباما بإنهاء «داعش». كلّه للاستهلاك.
في زيارة أوباما الأخيرة للمملكة العربية السعودية، كان الجو فاتراً بين الحليفين التقليديين. وأطلق الرئيس الأميركي عهداً بالقضاء على «داعش» لإرضاء السعوديين الغاضبين من واشنطن لأسباب كثيرة. ولكن، في التفاصيل، كل ما يريد أوباما أن يفعله لإنهاء «داعش» هو زيادة عديد عناصر القوات الخاصة في شكل محدود، ليكون دورها مساعدة القوى المحلية على محاربة هذا التظيم، في موازاة الضربات الجوية.
الترجمة العملانية هي: «داعش» باقية إذاً. فالضربات الجوية لم تقدِّم شيئاً في مواجهة التنظيم سوى منعِه من التقدّم أكثر خارج مناطقه. أمّا التدريبات والمساعدات المقدّمة لقوى المعارضة في مواجهة «داعش» فهي في ذاتها مهزلة، لسببين: الأوّل أنها ضئيلة الفاعلية، والثاني أنّ هناك التباساً يصيب بعضَ القوى في المعارضة السورية حول كونها إرهابية أم لا. وتالياً، إذا كان على واشنطن أن تدعمها أو تقاتلها!
لذلك، إنّ إطلاق أوباما تعهّداً بتشديد الضربات ضد «داعش» لإنهائها ليس سوى فقَّعة سياسية ذات اتجاهين:
– نحو الداخل الأميركي لتثميرها في معركة الرئاسة الحامية، حيث يسود الرأي العام الأميركي قلق من احتمال شمول الولايات المتحدة بعمليات إرهابية.
– نحو الحلفاء في الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية وقيادتها الجديدة التي تبدو قلقةً من «داعش»، وتعتقد أنّ هذه القوّة التنظيمية يمكن أن تقوم في أيّ لحظة بعمليات خطرة تهزّ استقرار المملكة وسائر المجموعة العربية الخليجية.
وبالحديث عن إنهاء «داعش»، أشاح أوباما الأنظار في السعودية عن أزمة قد تنفجر مع الملك سلمان ونجلِه وليّ وليّ العهد محمد الذي تعمَّد، بعد زيارة أوباما، إعلانَ ما يمكن تسميته «استقلال المملكة الاستراتيجي» في مدى الأعوام الـ 14 المقبلة. فالقيادة الجديدة للمملكة تريد في شكل حازم إنهاءَ النهج الذي لطالما اعتمدَته القيادة السابقة.
ولكن، لم يرغب السعوديون في تفجير أزمة مع واشنطن التي يتّهمونها بأنها بدّلت حليفها الإسلامي، من الإسلام السنّي التقليدي إلى الإسلام الشيعي، وبأنّها التزمت ضمناً أن تتفاهم مع إيران لإدارة شؤون الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
وهذه النظرة السعودية صحيحة.
أما مأزق المواجهة مع «الإرهاب التكفيري» فيكمن في الغموض الذي يَعتري تركيبة «داعش» وسائر الجماعات الرديفة لها، أو حتى تلك المنضوية في صفوف المعارضة السورية، كـ«النصرة» التي تحمل أيضاً اسم « تنظيم القاعدة في بلاد الشام».
وسيكون صعباً في سوريا إجراء عملية فرز للجماعات والتنظيمات المصنّفة «إرهابية» في سوريا، علماً أنّ واشنطن تصنّف أيضاً في عداد الإرهابيين أحزاباً موالية لإيران، تقاتل في سوريا، ومنها «حزب الله». فالإرهاب، بالنسبة إلى الأميركيين، لا يقتصر على «داعش». لكن الأجندة تقتضي جعلَ «داعش» في الواجهة، لأنّها الأكثر دينامية والأشدّ خطراً في الوقت الحاضر.
ولكنّ صعوبة المواجهة مع «داعش» تكمن في الغموض الذي يكتنف طبيعتَها، فهي تلقَّت مساعدة تركيّة في بعض المراحل، ومساعدات من جهات عربية متعدّدة في مراحل أخرى، فيما تعلن المعارضة السورية أنّ هناك شبهات حول دور لإيران في تحريك «داعش» أحياناً، وأنّ عمليات تسلّم وتسليم للمناطق تمَّت في سوريا بين النظام و«داعش»، لم يحصل مثيلٌ لها بينه وبين أيّ فصيل سوري معارض، ما يثير الشبهات بوجود تنسيق معيّن، وليس فقط الصفقات الموضعية.
لذلك، يعتقد كثيرون أنّ جهات إقليمية مختلفة ستجد مصلحة باستمرار «داعش» ورقة تستخدمها في المرحلة المقبلة من الصراع في سوريا، ما دامت التسوية قد فشلت، والكلمة ستكون مجدّداً للمتقاتلين.
وهكذا، سيكون وعد أوباما بإنهاء «داعش» مجرّد إضاعة للوقت الباقي من ولايته، وهو يدرك ذلك بالتأكيد. فليست الضربات الجوّية المحدودة كفيلة بالقضاء على هذا التنظيم، ولا السعيُ «النظري» إلى تقوية المعارضة.
إنّ «داعش»، كما بات يدرك المطلعون الجدّيون، ليست سوى مارد من ورق يمكن في أيّ لحظة إنهاؤه… شرط اتّخاذ قرار حقيقي بذلك. فالفورة التي من خلالها نشأت «داعش» في العراق واجتاحت الأنبار ثمّ الموصل لتصل إلى الحدود الكردية في سهل نينوى كانت مثيرةً للدهشة. وربّما كان القرار حينذاك أن يسقط الجيش العراقي أمامها، خلال ساعات، في تلك المنطقة.
وما إن لاحت ملامح التسويات السياسية الموَقّتة في العراق حتى تقلّصَ نفوذ «داعش». ويَعتقد كثيرون أنّ هذا النفوذ يمكن أن يتلاشى تماماً عندما تتفاهم القوى الإقليمية على مصير العراق. فليست «داعش» سوى عنوان لتسهيل الحروب الأهلية، وهو ينتهي بانتهائها ووصول المخططات إلى خواتيمها المطلوبة.
وهكذا، فإنّ «داعش» ما زالت قوية في معاقلها، خصوصاً في شمال سوريا وشرقها، كما أنّ اليرموك أكبر مخيّم فلسطيني في جوار العاصمة دمشق يقع تحت سيطرتها. وهي تحاول الضغط في اتّجاه الحدود مع لبنان، شمالاً وبقاعاً، وتتغَلغل في عين الحلوة ومناطق أخرى حيث تجري عمليات تجنيد لفِتيان لبنانيين وسوريين وفلسطينيين.
وفي الفترة الأخيرة، تقلّصَ نفوذ «داعش» في بعض المناطق السوريّة تزامناً مع ملامح التسوية وانعقاد مؤتمر جنيف. لكنّ الفشل السياسي يعيد الأمور إلى ما كانت عليه. ففي الحرب، يحتاج الجميع إلى عنوان «داعش» ليتبادلوا الرسائل والأدوار، وفي التسويات يتبارى الجميع في قبض ثمنِ القضاء على «داعش» ووراثة المناطق التي كانت تسيطر عليها.
حتى اليوم، لم تضرب «داعش» سوى أهداف محدّدة:
-1 في قلب العالمين العربي والإسلامي، السنّي تحديداً.
-2 في قلب أوروبا المسيحية، الكاثوليكية تحديداً.
ولذلك يبدو السؤال مجدّداً: ما هي حقيقة «داعش» الرافعة رايات التشدّد الإسلامي السنّي، وماذا تريد من أوروبا المسيحية التي لا تبدو أبداً في مواجهة مع الإسلام السنّي، لا في سوريا ولا العراق ولا الخليج العربي ولا أيّ مكان آخر في الشرق الأوسط؟
هذه التركيبة الغامضة تجعل من «داعش» لغزَ «الربيع العربي». ومن المؤكّد أنّ الذين صنعوها لغايات معيّنة، ووفّروا لها سُبلَ الانتفاخ اصطناعياً قادرون على إطفائها تماماً عندما يريدون، أي عندما تحين الساعة للحلول النهائية.
في تلك الساعة، لن تكون هناك قوى كثيرة تبرز اليوم على المسرح السوري. وحتى ذلك الوقت، ستبقى «داعش» حيّةً… وتُرزَق!