في الأيام الأخيرة، شنت إسرائيل غارات على مدينة دمشق، وعلى مطارها العسكري في المزة، ودمرت صواريخ وذخيرة وفق ما أشارت إليه وسائل إعلام محلية وأجنبية. لم تكن هذه الغارة الوحيدة، فقد سبقتها غارات واعتداءات إسرائيلية كثيرة، تعود الى زمن حافظ الأسد ولاحقاً الى عهد ابنه المستمر. كان النظام يتصرف بداية بتجاهل ما يحصل، وعندما تنكشف الأمور، يندد بالغارة كلامياً ويتوعد ويهدد، مقرناً ذلك بأنه يرفض أن تجره إسرائيل الى مكان المعركة وزمانها. على امتداد أكثر من أربعة عقود، كان السوريون ينتظرون أن ترد القوات المسلحة على الاعتداءات الإسرائيلية، وأن تظهر الدولة حرصها على الدفاع عن السيادة السورية ولو لمرة واحدة. لا يبدو أن النظام يعتبر الضربات الإسرائيلية تقع في منطق انتهاك السيادة، كما لا يبدو أن زمان ومكان الرد على العدو سيأتيان، لا سابقاً ولا راهناً ولا مستقبلاً.
من المفيد السؤال اليوم عن مدى تمتع النظام السوري بقدرته على اتخاذ القرارات المتعلقة بالحرب الأهلية وبالمفاوضات الدائرة. هل من شك في أن السيادة السورية باتت في جيب النظام الروسي ورئيسه بوتين؟ إن مجرى الحوادث الدائرة يؤكد أن القرار في السلم والحرب لم يعد يملكه بشار الأسد وحاشيته. النظام ينفذ ما يأمر به الروسي من دون سؤال أو اعتراض. صرّح وزير الخارجية الروسي لافروف مؤخراً بأن التدخل الروسي في سورية هو الذي أنقذ النظام ومنع سقوط مدينة دمشق في يد المعارضة المسلحة. التصريح ليس مفاجئاً، فكل من يتابع مجريات الحرب السورية يدرك مدى الانهيارات التي أصابت الجيش السوري ومعه الميليشيات اللبنانية والعراقية التابعة له، وكونها على وشك السقوط المريع. لكن المفاجئ أن النظام السوري وإعلامه تجاهلا كلياً هذا التصريح، كما تجاهلا تصريحات مشابهة من الرئيس الروسي نفسه. فأين تقع السيادة السورية من هذه التصريحات المهينة والمذلة عملياً للنظام ولجيشه ولميليشياته. ليس من قبيل المبالغة اعتبار سورية اليوم أشبه بمستعمرة روسية، تخضع لمنطق تعاطي الاستعمار مع الشعوب التي استولى على بلدانها. القرارات السياسية والعسكرية في يد الروس، والقواعد العسكرية الروسية تتوسع على الأراضي السورية ويجرى تسييجها باتفاقات مع النظام.
والسيادة السورية ليست مستلبة فقط من جانب روسيا، فهناك إيران التي دخلت بجيشها وميليشياتها وساعدت النظام في حربه على الشعب السوري. لا يوفر قادة إيران فرصة إلا ويعلنون فيها عن دورهم في إنقاذ النظام من السقوط. لا يراعي هؤلاء القادة الحد الأدنى من اللياقة الديبلوماسية في التعبير الفج عن دورهم وموقعهم وإصرارهم على بقاء رأس النظام مهما كان الثمن المطلوب لذلك. لم يخجل قادة الحرس الثوري من الإعلانات المتكررة بأن إيران لها الدور الكبير في القرارات المتخذة في دمشق، وأنها مصرّة على البقاء في الأراضي السورية، وتقاسم استعمار البلد مع روسيا وإن كان في شكل غير متوازن.
يبدو فقدان السيادة فاقعاً من خلال الدعوات الى المفاوضات حول سورية ومصيرها. تجرى المفاوضات وترسم القرارات في معزل عن النظام السوري. وعندما يدعى الى المفاوضات، فلا يدعى بصفته صاحب المشكلة والقرار في خيارات سورية، بل يدعى كأنه بلد مراقب، يستمع مثل غيره من الوفود الى أصحاب القرار الفعليين، وينفذ ما يُملى عليه في نهاية المطاف من دون قيد أو شرط.
إذا كان هذا حال السيادة فعلياً، فهل من مكان آخر لها؟ نعم! منطق النظام في السيادة هو في تدمير سورية وتفكيك نسيجها الاجتماعي وإجراء الجراحات الديموغرافية داخل سورية بما يؤدي الى إفراغ مناطق من سكانها وإحلال مجموعات ذات طابع مذهبي خاص. السيادة في سورية هي في رفض النظام إجراء تسويات سياسية مع قوى البلد نفسه بما يسمح بإنهاء الحرب الأهلية. في هذا المجال، يرتفع صوت النظام رافضاً الحوار تحت حجة سيادة البلد وعدم الخضوع لمنطق الإرهاب المتسبب به أصلاً.