غلب على مزاج اللبنانيين حال من السأم العام تسيطر عليهم من كلّ ما يحدث من النفايات إلى الكهرباء إلى موجة الحر الرهيبة التي تضرب منذ أسبوعين، إلى تعطيل الحكومة وشلّها، إلى الوزراء العاجزين عن القيام بمهامهم واستعادوا في اليومين الماضيين «الوعيد» بالكوارث والمزيد من المصائب، لكأنهم لا يجدون سوى الشعب اللبناني ليمعنوا في قهره وزيادة غمّه وهمّه وقرفه منهم!!
عمليّاً، لقد تمرّس اللبنانيون منذ أربعة عقود في حالات الهرب من الواقع السياسي وتجاهله وإدارة الظهر له، وحال القرف هذه ـ وإن كنا من الذين سئموا وضجروا وقرفوا ـ لا تعني أبداً أنّ اللبنانيين مستسلمين لهذا الواقع الذي يُراد لهم أن يستسلموا له، ولا يعني هذا أبداً أنهم «شالوا» من رؤوسهم قناعتهم النهائية بلبنان وطناً سيداً حراً مستقلاً.
وسط هذا المظهر العام المثير للإحباط ـ رحم الله سمير قصير عندما عنون مقالته تلك قبيل استشهاده بأيام «الإحباط ليس قدراً» ـ قد يُخطىء كثيرون في قراءة الحال اللبنانية، فوسط هذا الصمت البليغ قد يريد البعض أن يصدّق أنّ العجز الحكومي، وحال الموت السريري التي تعيشها الرئاسة الأولى، ومقامرة حزب الله بمصير لبنان وشعبه تارة في سوريا وأخرى في العراق، وبينهما الإرهاب الذي يصدّره للخليج العربي ودوله، ولكنّ الأمر ليس كذلك أبداً، ولا يبدو أنّ المعنيّين بفرض هذا الواقع قد تعلّموا شيئاً يسيراً عن اللبنانيين، وهذا اليسير ببساطة يؤكّد أننا «شعب لا يغسل دماغه ولا يُدجّن»..
ربما هذا جزء من خصوصية طبيعية من شخصيّة الشعب اللبناني أنه شعب «تاجر» يركب الأهوال والبحار ويواجه الأنواء والعواصف ومتى وصل الشاطىء يريد أن يرى سريعاً ثمار ما خاض، رنين المال في كف التاجر لا تعدله متعة، واللبنانيون تجار من أيام الفينيقيين، والتجارة «عالحارِك» خصوصاً للذين اعتادوا ممارستها وراء البحار..
قد يكون عيب الشعب اللبناني «قصَرُ النّفس»، أو «النقّ»، وربما السبب في ذلك تغاضيه عن أنّ من يواجههم لهم سياستان ثابتتان، سياسة المماطلة والمناورة والتذاكي إلى حد الغباء لتضييع الوقت، وسياسة النفس الطويل.. وما نعيشه اليوم ليست بسيناريوهات جديدة على لبنان، فقد مورِسَت هذه السياسات عليه طوال ثلاثين عاماً، واليوم تتكرر السيناريوهات بنفس الأشخاص مع فارق الزمن والمواقع، خصوصاً أن البعض انتقل من رئاسة الميليشيات إلى أحضان مؤسسات الدولة!!
ثمّة محاولات لتصوير الشعب اللبناني بأنه صار «عآخر روح» ، وليس دقيقاً جداً هذا التصوير، جزء من طبيعة اللبناني «التذمر» و»التأفف»، شعب «مَزَجَتْلي» سيظل يجد شيئاً «ينقّ عليه»، إلا أنه ليس شعباً هيناً أبداً، وميزته أنه لا ييأس مهما اسودّت في عينيه الألوان، يقع ويقوم ويظل كذلك إلى ما لا نهاية، فإنْ وقع فهذا ليس عيْباً، وهو بالتالي ليس نعجة، وإذا قام فهو قادر على مفاجأة العالم!!
سياسة الصمت اللبناني تقنية دأب عليها اللبنانيون، هم غالباً ليسوا غوغاء يهرجون ويمرجون، الصمت أحياناً وسيلة اعتراض مُثلى على كلّ ما يحدث، لأنّنا لسنا وقوداً ، ولسنا أيضاً ثيراناً هائجة، ولا كلاباً تنبح طوال الوقت، يمتلك اللبناني تقنية الصمت عند الرفض، فلا يظنّ الراغبين في تيئيسنا أننا حققنا لهم ما يريدون..
اللبنانيون، أباً عن جد، تجار أبناء تجار، عيبهم الكَلَل السريع، إلا أنّ فيهم ميزة غريبة لا يعلم سرّها إلا الله، فيهم قوة النهوض من رمادهم، كلّهم «فينيق» وقد يكون هذا شيئاً في «جينات» الهندسة الوراثية، بالرغم من أنهم «نقاقون» و»طقاقون» وصبرهم قليل، هذا طبعنا، ولو كانوا سيَيْأسون لكانوا يئسوا منذ زمن بعيد، حال المراوحة والتعطيل التي يتباهى بها البعض هي فقط التي أصابتهم بالضجر، المواطن اللبناني «حِرِك» يحبّ التشويق، ولا يناسبه هذا «الستاتيكو» وروتينه المميت، ومتى تغيّر هذا المشهد اليومي المملّ سينهضون من جديد..