اللبنانيون يودعون كبيراً منهم ولد قبل ولادة لبنان الكبير، ورحل بعد رحيل السياسة وحلم بناءالدولة. وبين الولادة والرحيل مسار طويل مستقيم لرجل في القضاء والوزارة والعمل الوطني، ومسار معقد لبلد يكاد يصبح مجرد مساحة جغرافية لكل البلدان. فالرئيس فؤاد شهاب الذي أخذ القاضي فؤاد بطرس الى السياسة اختاره لبداية قطع مع الماضي والسياسيين التقليديين الذين قال إن ما رآه منهم أزعجه وزرع فيه خوفاً على مصير البلد ومستقبله. والوزير فؤاد بطرس مارس السياسة بنزاهة القاضي واستقلاليته وحرصه على رؤية القضايا من كل جوانبها، وأضاف اليها ثقافة القارئ الدقيق للمتغيرات والثوابت في الداخل والخارج وحكمة القادر على التحليل السليم للوقائع والمعطيات.
ذلك أن الرئيس شهاب الذي استقبل فؤاد بطرس في منزله قبل تعيينه وزيراً وضع المهمة في اطار بالغ الأهمية. إذ قال له، حسب المذكرات: نحن لم نتمكن بعد من بناء وطن بمعنى أمة، ويجب أن نسعى الى انشاء دولة سليمة حتى اذا تمكنّا من ضم اللبنانيين اليها يصبح ممكناً أن نرتقي الى وطن. وأريد منكم أن تساعدوني لإقامة دولة بالمعنى الصحيح. وهذا ما عمل عليه بجد وايمان ومزيج من الصلابة والمرونة الوزير فؤاد بطرس خلال ولاية الرئيس شهاب وولاية الرئيس شارل حلو، وبشكل خاص خلال توليه وزارة الخارجية على مدى ولاية الرئيس الياس سركيس.
لكن الظروف لم تكن مساندة للمهمة. فالتشابك المحلي والاقليمي والدولي قبل حرب لبنان وخلالها قاد الأحداث في اتجاه معاكس لبناء الدولة. والتركيبة السياسية التقليدية الطائفية المرتبطة بالقوى الخارجية والمقاتلة من أجل حصصها في كعكة السلطة لا مصلحة لها بقيام دولة. واذا كان اصطدام الرئيس شهاب بالتركيبة السياسية ومصالحها قاده الى اعلان اليأس من اصلاح النظام، فإن الوزير فؤاد بطرس أصر مع الرئيس الياس سركيس على ابقاء شعلة الأمل. فالواقعية ليست بلا شيء من الحلم وحتى الخيال. ولم يكن أمراً عادياً أن يختصر سركيس وبطرس حصاد العهد بالقول للأصدقاء إن أهم ما فعله الرئيس سركيس هو ما رفض أن يفعله.
واذا كانت التجربة قد علمت الوزير بطرس بأن ممارسة السياسة هي أقرب الى الفن منها الى العلم، فإن الخروج من السلطة عام ١٩٨٢ لم يكن خروجاً من العمل الوطني. اذ بقي السفراء يزورون منزل الوزير الذي لم يجدوا سواه قادراً على التقويم الصحيح للأوضاع. وبقي الرؤساء يطلبون استشارته.
وما أحوجنا الى تراث فؤاد بطرس الذي نودعه، لا كرجل من الماضي بل من المستقبل.