الاقتراع مهمّ للديموقراطية، لكنه لا يُنتج بالضرورة الديموقراطية. هذه هي خلاصة ما توصّل إليه العديد من الفرنسيين، وبينهم مفكّرون، بعد متابعة الحملة الرئاسية التي بدأت فعلياً مع الانتخابات التمهيدية في الحزبين الاشتراكي والجمهوري. لم يلتزم أحد بنتائج التمهيدية سوى آلان جوبيه، الذي رفض بعد مسلسل فضائح فرنسوا فيون ـــ المرشح الذي كان قوياً إلى درجة أن المحيطين به ومن أوساط عديدة يتعاملون معه على أنه الرئيس القادم ـــ أن يرجع عن الالتزام بنتيجة الاقتراع التمهيدي. النتيجة حصول الانهيارات في اليمين واليسار على السواء ما عدا اليمين المتطرف الذي استقوى بصلابة قاعدته فجذب إليه الكثير من اليائسين من الطبقة السياسية كلها.
المثل الفرنسي الشعبي يلخّص الحالة التي يعيشها الفرنسيون حالياً وهو: «لا يمكن المحافظة على الحساء وكسر الوعاء في الوقت نفسه».. لذلك فإن «الجمهورية الخامسة» التي تمر بحالة «وفاة سريرية» حان الوقت لإعلان وفاتها رسمياً والعمل على ولادة «جمهورية سادسة» سريعاً، تُبنى على
المتغيرّات التي حصلت ونمت وتأكدت في السنوات الأخيرة. أول تلك الوقائع أن عصر الرئيس – الملك قد انتهى، وأكبر دليل واقعي على ذلك، «القماشة» السياسية والشخصية لكل المرشحين للرئاسة. لا أحد منهم يملك الحد الأدنى من قامة الجنرال ديغول، ولا من حضور جورج بومبيدو، ولا من شخصية فاليري جيسكار ديستان، ولا من وزن فرنسوا ميتران، ولا من شعبية جاك شيراك. أما نيكولا ساركوزي الذي أراد أن يكون نابليون الجمهورية فلم يكن مثله إلا في قِصر القامة. يبقى فرنسوا هولاند الذي أراد أن يكون رئيساً عادياً، فأكد أنه عادي جداً، إلى درجة أنه بعد انسحابه من الحملة الانتخابية نتيجة تفكّك دوائر القوى من حوله، أقام حساباً له على «تويتر» باسم Georges Bertri19 ترك لنفسه الحرية في السخرية من الجميع وبرع في ذلك مع الكثير من الفلسفة، وقد تمّ تكذيب علاقته بالحساب لكن الاسم الأول هو اسم والده والرقم هو لمقاطعة «الكوريز» التي ينتمي اليها.
أي جمهورية سترث الحالية ستكون المساحة مفتوحة أمامها لقيام قوى جديدة، لأن اليسار ممزق، والحزب الاشتراكي الذي عرفه الفرنسيون انتهى، واليمين «عربة يجرها حصانان» أحدهما جموح والثاني رجله مكسورة وينتظر من يطلق عليه رصاصة الرحمة ووضع بديل له. يُقال إن النظام يجب أن يكون رئاسياً – برلمانياً، ولذلك فإن رئيس الوزراء هو الذي يحكم، ولهذا يجب ألاّ يستقيل رئيس الوزراء فور انتخاب رئيس الجمهورية لأن الأغلبية البرلمانية ما زالت موجودة حتى الانتخابات التشريعية المقبلة.
ماذا عن المرشحين الخمسة، وكيف يتم التعامل معهم، وما هو المتوقع منهم؟
] فرنسوا فيون، سقط ولم يقبل سقوطه، ويتابع تقديم نفسه كـ«ضحية» رغم اعترافه بالوقائع المنسوبة إليه. طبعاً يخاف فيون من الخسارة الشعبية التي يريدها ضمانة له حتى لا يُحاكَم ويُدان مع زوجته ويدخل السجن لاحقاً.. والسؤال المطروح «ماذا كان يمكن أن يفعل فيون للتغيير وهو غارق الى أذنيه في الفساد؟».
] مارين لوبن، التي تريد الخروج من اليورو وتدمير الاتحاد الأوروبي وليست لديها الحلول والاقتراحات القادرة على التغيير، إلى جانب ذلك، وهو الأخطر، أنها تضع فرنسا على سكة الحرب الأهلية الى درجة القول إن المعارضة بدأت تنظم نفسها للمواجهة في الشارع، ومن الطبيعي أن الفعل سيقابله ردّ فعل من الوزن نفسه. مارين لوبن تعرف ماذا تريد أن تدمّر لكنها تجهل ماذا تريد أن تبني. فوزها يعني تنفيذ «السيناريو الأسود» لفرنسا.
] بنوا هامون، المرشح الرسمي للحزب الاشتراكي الذي يتسابق النواب والممثلون في الهيئات على الابتعاد عنه، فهو المرشح الذي يقول كل ما يريد الفرنسيون سماعه من دون إمكانية تنفيذه.
* جان أوك ميلانشون اليساري المتشدد يرضي بمثاليته الثورية شريحة كبرى من الفرنسيين. المشكلة أنه إذا فاز فسيشكّل النسخة الثانية «للسيناريو الأسود»، وإذا نافس لوبن فإن الخطر قائم بنجاحها.
] إيمانويل ماكرون أو «الصاروخ» الذي جاء من عالم المصارف، وتحديداً من عند روتشيلد، هو المرشح الفعلي لفرنسوا هولاند. ماكرون ليس ابن الحزب الاشتراكي ولا اليمين ولا الوسط. إنه كما يصفه صحافي فرنسي يعرف لبنان: «ماكرون مثل التبولة فيه كل شيء ومذاقه طيب، ولكن ماذا يستطيع أن يقدّم لفرنسا، وهو لا يملك حزباً ولا أغلبية؟. يستطيع ماكرون أن يكون كل شيء ولا شيء. إذا اعتمد صيغة التعايش بين يمينه ويساره فسيفشل حكماً، فالتعايش بين القوتين أرهق فرنسا لأن العربة حسب الجمهورية الخامسة يجب أن يجرها حصان واحد لأنها نظام الرئيس – الملك»!!
أخيراً، لا يمكن تحديد ماذا ستكون فرنسا ما بعد الانتخابات، لكن من المؤكد أن فرنسا لن تكون كما كانت