وجدوه مقتولاً والطبيب الشرعي أصرّ: مات ذبحة قلبية
هنا بيروت، هنا منطقة البدوي في بيروت، هنا الشارع رقم 73، في المنطقة رقم 79، في منطقة البدوي المحاذية لمطاحن “نشف” خبزها وأصبح قاسياً. هنا فوضى وسرقات وخنق وقتل. هنا منطقة أخرى منسية من دولة منهمكة بحالِها، لا منطق فيها، ولا عدل ولا عدالة ولا “معقولية”. هنا قتل فريد سكر، إبن الخامسة والسبعين، في بقعة يشتمّ فيها المار رائحة “قنبلة” قابلة للإنفجار.
سكة القطار الحديدية الصدئة محاذية للمكان. هدوء كبير وغيوم تُلبّد السماء وتضفي “وهرة” على المكان. كاراجات تصليح السيارات كثيرة. محال الحدادة والبويا كثيرة. لكن الوجوه باهتة. هنا منزل جو أندون لمن يتذكره. جو، موظف الأهراءات، الذي توفي في مرفأ بيروت، في الرابع من آب ذاك، وهو يصوّر الحريق الذي شبّ. يُقال إن عائلته هاجرت. المنطقة شعبية جداً. البيوت متلاصقة. ومبانٍ كثيرة صدرت فيها قرارات هدم أجرّت إلى نازحين وعمال أجانب.
نتابع سيرنا في الأرجاء بحثاً عن “الفقيد” الذي قُتل خنقاً في المنطقة. نمشي”ململمين” قصصاً وحكايات تحت عناوين: القلق والسرقات والقتل. بيرج، إبن السبعين، يمشي في الأحياء، يسأل فلاناً وعلتاناً، عن آخر خبر عن أحوال الحيّ. والجواب دائماً: “إنها زفت”. هي عبارة يسمعها، ويعود ويردّدها. فما حكايته؟ يجيب: سرقوني. سرقوا سيارتي وهي من نوع مرسيدس 280 يهواها من يجمعون سيارات قديمة، سرقها أحدهم من “جنب البيت”. يسكن بيرج في الطبقة الأولى، في منزل مطلّ على الشارع، إستفاق صباح السبت، في 11 حزيران، فلم يجدها. بلّغ مخفر الجميزة. وها هو، منذ ذاك الحين، ينتظر على قارعة الطريق، ممسكاً بمفاتيح بقيت “الحيلة والفتيلة”. قصص كثيرة من هذا النوع تحدث في منطقة يفترض أن تكون عيون الدولة فيها 10 على 10.
… ونحن نقترب من منزل القتيل فريد سكّر، نلتقط أخباراً، من الجيران والمعارف والأصحاب عنه، بينها أن طبيباً شرعياً كشف عليه ودوّن تقريراً جاء فيه: مات بذبحة قلبية. يُخبر الجيران ذلك “مستهجنين”. مضت أيام كثيرة ظنّ الجيران فيها أن الضحية مات في 26 أيار “موتة ربو” إلى أن اكتشف عناصر فرع المعلومات، بعد أكثر من عشرة أيام، عكس ذلك “فمات العمّ فريد” بحسب ابن شقيقه شربل سكر “مرتين”.
ترك الغاردينيا والعصفور
منزل الضحية مطل على ثلاثة شوارع. إنه يسكن في الطبقة الأولى من مبنى يشغل طبقته الأرضية ناجي الياس صالحاني مختار محلة الرميل. يُقال إن المختار انتقل منذ أشهر إلى مبنى آخر في المحلة لكن اليافطة لا تزال معلقة. كل نوافذ منزل القتيل مطلة على الشارع العام والزواريب. هنا غرفة نومه. نراقب من الشارع. نحاول أن نلمح شيئاً ما. نرى شتولاً كانت خضراء ويبست. نرى غاردينيا اصفرّت أوراقها. هو كان يعتني بوروده كمن يعتني بأطفاله. هو عازب. لكنه “هندس” حياته بطريقة جعلته سعيداً وجلب عصفوراً يؤنس وحدته.
ندور حول المبنى. ننظر إلى شرفة شقته فنرى صورته معلقة كبيرة. وإلى جانب الصورة علم القوات اللبنانية. فريد سكّر هو إبن بشري وكان، طوال عمره، على معرفة، بحسب ما كان يخبر الجيران، ببشير (الجميل) وسمير (جعجع) ودوري وداني (شمعون) وإيلي (حبيقة). كان يروي قصصاً وحكايات عن شبابه ويخبر الجيران والمعارف عن الأنتيكا التي يُتقن الإتجار بها ويتحدث عن ألماس في منزله. فهل ما يقوله الجيران حقيقي؟ يجيب إبن شقيقه شربل سكّر: “لسانه قضى عليه” يضيف “هو يملك من العنفوان الكثير ويصرّ على إخبار من يعرف ومن لا يعرف أن ابن أخيه لا يتركه. وكان بحوزته ألف دولار وصلته من ابن شقيقه من الخارج، صرف مئة دولار عبر أحد الجيران، وبقي معه 900. ويوم جرى انتخاب نبيه بري رئيساً للمجلس النيابي سارع إلى صرف كل دولاراته إلى العملة اللبنانية خوفاً أن يهبط الدولار بسرعة. هو جلب المال بكيس نايلون”.
شربل سكّر كان يزور عمّه باستمرار. ويوم الإثنين، في الثلاثين من حزيران، إتّصل به جيران العم فريد الذي لم يخرج، على عكس عادته، من منزله. وصل بسرعة وحين فتح الباب رأى الجوارير في الفيترين، قرب الباب، مبعثرة. دخلوا إلى غرفة نومه فوجدوه ميتاً. كان مغطّى من رأسه حتى أخمص قدميه. وكتب الطبيب الشرعي في تقريره: مات بأزمة قلبية. يتابع شربل الرواية: “سألت الطبيب مرّات: كيف يموت بذبحة قلبية وهو مغطّى بالكامل؟ سألته عن بقعة الدم التي كانت تحت رأسه فقال لي: قد يكون بصق دماً جرّاء الأزمة. حاولت أن أصدّقه. وطلبت الأدلة الجنائية التي سجلت كل التفاصيل وأخذت البصمات وختمت البيت بالشمع الأحمر”. نقرأ على باب منزله قرار إقفال المنزل، من قبل فصيلة النهر، بناء لإشارة قضائية.
هو استهتار من الطبيب الشرعي الذي سارع إلى وضع تقرير أقل ما يقال به متسرع.
من الذبحة إلى القتل
دُفن فريد سكّر في كنيسة السيدة في بشري. ومرّت الأيام إلى أن ظهر في تقرير مديرية المخابرات أنها أحالت على القضاء المختص السوريين (ع.ع) و(ن. م) و (ب. ح) و (أ. ح) لإقدامهم على قتل المواطن (ف.س) في منطقة الأشرفية في 26 أيار 2022، وقيامهم بسرقة منزله. وأوقفتهم المديرية بعد عملية رصد ومتابعة في منطقة وادي خالد خلال محاولتهم الفرار بطريقة غير شرعية إلى داخل الأراضي السورية”.
تسرّع الطبيب الشرعي في إعداد تقريره، أو لنقل استهتاره، كاد يساعد القاتلين على النجاة بما اقترفوه. فهل يجوز أن يكون مضمون التقرير قد انطلى على من شاهدوا الفوضى التي أحدثها المشاركون في الجريمة؟ ألم يلاحظ أهل الميت وجود سرقة؟ وماذا يعني أن يكون 4 سوريين قد شاركوا في القتل والسرقة في بقعة بات من يسكنها من السوريين بالآلاف؟
ندخل إلى المبنى الذي كان يسكن فيه القتيل. مواء الهررة يُسمع بوضوح. ومن بيت إلى بيت إلى بيت نعبر لنصل إلى نقطة نرى منها الشرفة التي دخل منها المجرمون. إمرأة مسنة تنشر الغسيل متكئة على عصاها وتقول: حرام قتلوا الختيار. كان يجلس هنا. وتستطرد: سمعتُ أن المجرمين إعترفوا أنهم أتوا عند الساعة التاسعة والنصف للقيام بجريمتهم لكنهم رأوا “ختيارة” جالسة فغادروا وعادوا عند الثانية ليلاً. أنا كنت هنا أسهر مع جارتي. لم أرهم. يا دلي. كتر خير الله أنني لم أرهم”.
إبنها متخصّص في علم النفس الجنائي. هو دخل مع الطبيب الشرعي إلى بيت القتيل. وسجل جملة نقاط كان يفترض أخذها منذ البداية في الحسبان. الأغراض كانت مبعثرة. وكانت على خصر القتيل الأيسر بقعة دماء. هم طعنوه على الأرجح في خصره كي لا يصرخ. وكان مغطى “بالحرام” بالكامل. والأمر المضحك هو أن الطبيب الشرعي كان مصراً على التأكيد أنه مات سكتة قلبية. كان واضحاً أنهم قاموا بوضع الوسادة على وجهه وخنقه لأن الرأس كان منخفضاً أكثر من الجسم. وكان على مستوى الأنف والعينين ازرقاق وكدمات وهذا دليل الى حدوث عملية خنق. كما كانت يداه متشنجتين كمن يمرّ بحالة عصبية شديدة. لكن ما حدث أن الطبيب الشرعي سأل أقاربه: هل يشكو فقيدكم من مرض؟ أجابوه: سكري وضغط. فسجل: مات سكتة قلبية”.
غريبٌ كل ما يحدث. السرقات تحدث يومياً والإستهتار أيضاً يتكرر يومياً. أحد جيران القتيل يحدد المكان الذي دخل منه القاتلون: “هم دخلوا من بهو الطبقة الثانية ونزلوا على منشر، عليه لوح خشبي، كان يضع فوقه الأواني المطبخية لتنشف. دخلوا من نافذة المطبخ بالتحديد. وربما يكونون قد خرجوا من الباب الرئيسي. ثلاثة أمسكوا به وواحد خنقه”. ننظر حولنا. نرى بيوتاً كثيرة متلاصقة. نرى جيراناً يراقبون من وراء الأبواب الحديدية. ثمة خوف لدى الجميع. ويتكرر على لسان الجميع: “الدني عتمة ظلمة ولا أحد يخرج من منزله حتى ولو سمع صراخاً”.
لم يسمع على ما بدا أحد صراخ العم فريد تلك الليلة. وكاد يصدق الجميع أنه مات “موتة ربه”. هو كان مصاباً بمرض الفالج ويمشي بخطى بطيئة. وكان يحب أن يطهو الطعام ويرسل أطباقاً إلى كل الجيران. كان كريماً.
صراخ شديد وضحكات أطفال في الأرجاء. ثمة عائلات سورية تسكن هذه البقعة بالتحديد. ثمة مبنى واحد يملكه موسى طوروسيان المعروف بأتوم، يسكن فيه نهاراً نحو خمسين شخصاً ويرتفع العدد ليلاً إلى ثلاثمئة. والمبنى مهدّد بالسقوط. ويكثر الكلام في الحيّ عن سكاكين على خصر السوريين دائماً، سكان الحي باتوا اليوم يخافون أكثر من أي يوم من جرائم يرتكبها هؤلاء. وموت فريد سكّر وسرقة سيارة بيرج وعينا الست تريز التائهتان من على شرفتها تؤكد أن الوضع لا يُطاق، وأن هناك لبنانيين يموتون قبل الموت قلقاً وقهراً وخوفاً. فهل هناك، رجاء، من يتابع؟ الموضوع برسم بلدية بيروت وله بالتأكيد تتمة.