مرّ عابراً خبر تقرير «مؤسسة الموارد العالمية» الذي ينذر المنطقة العربية بالعطش، والجفاف التام للصنابير، كواحدة من أكثر دول العالم شحاً في المياه، بعد سنوات قلّت فيها المتساقطات حتى ندرت في بعض البلدان.
يبدو الخبر عادياً لسكان يشترون المياه، ومنازل تنتظر ساعات الفرج، لكن ثمة دائماً ما هو أسوأ. وهو ما يقوله التقرير في خريطة تُظهر أن المشكلة ليست فقط في تغير المناخ وازدياد درجات الحرارة، وهو ما يهدد البشرية جمعاء، بل إن هذه المنطقة تحديداً شهدت من الفوضى والحروب، وتزايد عدد السكان ما لم يسجل لغيرها، فيما تعيش غالبية دول الكوكب في سلم يسمح لها بتنظيم أمورها، واستقرار يجعلها قادرة على مواجهة ما تُمتحن به.
فقد ارتفع عدد سكان مصر وحدها، منذ اندلعت الثورة عام 2011 ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة، وفي سوريا، رغم الحروب، الولادات إلى تصاعد. ولا داعي لذكر بقية الدول، لكن استنزاف الموارد يأتي أيضاً من الاستهلاك المتزايد، يضاف إليه السوء الذي لا مثيل له في الاستخدام، وعلى رأسه التبذير وتلويث ما هو صالح من المياه والقضاء عليه.
بلدان اثنان من العار أن يعانيا من الشح هما العراق ولبنان، ومع ذلك تجدهما على رأس اللائحة. ومرور سنوات تقل فيها الأمطار، لا يبرر الدخول في عدمية وتصحر، إلا عند من لا يملك الحيلة أن يخزّن ويعتني ويخطط. ففي العراق نهران يشتهيهما كل طالب ري، ومع ذلك سوء الإدارة تهدد البلاد بأن تعلن منكوبة عند أول موسم شح للأمطار. وفي لبنان تساقط الغيث هذه السنة بمعدلات قياسية، وبقيت الثلوج تكلل الجبال حتى مشارف الصيف. والثلج سر الآبار الجوفية ومصدرها الأساس. ومع ذلك لا تزال الصهاريج تجوب بيروت، وتسعف المحتاجين الذين يشترون مياههم ولو نضبت جيوبهم.
ومشكلة المياه في المنطقة العربية متشعبة، وتُدخل مَن يلاحقها في حلقة مفرغة. ولا بد أن أسوأ ما يصيب الماء في بلادنا، هو الاستسلام للفوضى. فمن المحيط إلى المحيط، هناك شكوى من ملوحة المياه الجوفية، وهذا من جور الحفر، والمبالغة في الضخ حتى استجلاب مياه البحار. وفي لبنان غالبية معتبرة من الآبار لا تخضع لرقابة، ومنها ما يُحفر من دون تراخيص، والواسطة السياسية تحشر أنفها حتى في البئر كما في شطآن البحار.
والعالم مهتم بما يحدث عندنا، لأن الشح نتيجته التصحر وفقدان الأراضي الزراعية واختفاء المزروعات. وعندها نصبح من أكثر الشعوب طلباً للقوت من الخارج، مما يرفع أسعار الغذاء في كل مكان.
ويحكي التقرير الحزين عن أن استهلاك البشر للمياه زاد ضعف ما كان عليه في الستينات، فيما المخزون واحد، والمتوفر نقص ولم يزد. والهند بسكانها الذين يتجاوزون المليار في قلب المشكلة، فخزانات مدينة تشيناي سادس المدن الكبرى هناك، فرغت من محتواها. وكيب تاون في جنوب أفريقيا تعاني، وروما دقت ناقوس الخطر.
لكن المشكلة عند العرب لا تكمن في الشح بل في بقاء الإجراءات كلاماً لا يجد طريقه إلى التنفيذ. وإذا ما تم البحث فعن حلول غير ناجعة أحياناً. وثمة غياب للفكر العلمي من أجل حل مشكلات هي هندسية وتنظيمية إلى حد بعيد، ومقاربتها بأساليب خنفشارية.
يتظاهر المواطنون في المكان الذي تريد الدولة اللبنانية أن تقيم فيه سد بسري، ويتعرضون للإساءة والعنف أحياناً، لأنهم يحتجون على قرارات لا طائل تحتها. الجفاف يتمدد والخلاف قائم، هل يستحق السدّ، تدمير أجمل الآثار، وتعريض حياة الناس لزلازل من أجل إقامته، فيما المياه موجودة، بدليل أنها تباع لمن يدفع؟
وكيف يُسمح لكل من تسوّل له نفسه توجيه المجارير، ومخلفات المصانع، والنفايات إلى نهر الليطاني الذي كانت تستوفي منه إسرائيل مع نهر الوزاني ربع حاجتها من المياه؟ في لبنان خمسة عشر نهراً، يجب أن تُرعى بجفون العيون، مع ذلك قُضي على ثروتها بالاستهتار واللامبالاة. وفوق هذا نصف مياه الأمطار تذهب سدى وتُكبّ في البحر. كما أن نصف الآبار التي حُفرت وتستنزف الثروة المائية الجوفية غير مرخصة. أما حين تعرف أنه بعد عشر سنوات فقط، ستكون حاجة لبنان المنزلية من المياه ضعف ما هي عليه اليوم، فيما كل الموارد تُستنفد بسبب الجهل وغياب تطبيق القوانين، لا بد أن تعرف عما يتكلم تقرير «مؤسسة الموارد العالمية» التي حين تقرأ معلوماتها، عن بلاد الأرز، تظن أن في المكتوب مبالغة. لكن دقِّقْ قليلاً، تدركْ أن الأمر في غاية الخطورة.
يرتئي التقرير أن الحل الأنجع في دول لم تعد فيها ضوابط، هو في إعادة تدوير مياه الصرف الصحي، واستخدامها. لكنّ هذا أيضاً قد لا يفي بالحاجة، في حال استمرت السلوكيات في غيها؛ إذ إن بلداً منتظماً مثل عمان يكرر بالفعل 100% من مياهه الآسنة، ويعيد استعمالها، لكنّ المشكلة هناك لا تزال قائمة.
وفي لبنان تحديداً، الحلول سهلة ومتاحة، لكن كل العُقد هي في الذهنية التي لا تزال مطمئنة إلى أن لبنان أخضر، مع أنه بدا يصفرّ ويشحب ويصاب بدوار الباطون، وبشاعة الإسمنت. وصار من الصعب أن تعرّج أينما كنت في الريف على عين ماء، كما يشتهي أمين نخلة، أو تعثر دون الابتعاد كيلومترات طوالاً عن المدينة على «ظل الشجرة الذي يدل على أن التربة جيدة، وظل الفلاح الذي يدل على أنها تعطي».