تفادى «حزب الله» والقيادة الإيرانية من ورائه إقحام حليفهما النظام السوري في المواجهة بينهما وبين إسرائيل، عبر اختيارهما الرد من مزارع شبعا المحتلة، على عملية القنيطرة التي كانت أدت إلى مقتل ستة من الحزب وجنرال إيراني من «الحرس الثوري»، بدلاً من الرد عبر الجولان السوري المحتل، أي من الأرض التي وقعت الغارة فيها.
دقة الحسابات التي قضت بالرد وإنزال خسائر بالجنود الإسرائيليين، تختزل الكثير من ظروف المواجهة الدائرة بين إسرائيل من جهة وإيران و «حزب الله» من جهة أخرى، وما يحيط بها من ملابسات، تشمل، إلى جبهتي الجولان والجنوب اللبناني، ما هو أبعد من ذلك، أي التفاوض الأميركي (والغربي) مع إيران على ملفها النووي الذي يفترض أن يستكمل بترتيبات إقليمية للدور الإيراني في المنطقة. وهي مواجهة عنوانها العريض استباق ترتيبات كهذه بتجميع الأوراق لتحسين موقع كل فريق في التفاهم على هذه الترتيبات.
وإذا كانت الإدارة الإسرائيلية بتنفيذها عملية القنيطرة سعت إلى استباق التمدد الإيراني نحو الجبهة الملاصقة لوجود قواتها في الجولان السوري المحتل فلأن ما كان يحصل نتيجة حاجة طهران إلى التواجد المباشر على الأرض السورية فرض تنافساً مع إسرائيل على التحكم بتلك الرقعة الجغرافية من الأرض السورية. فاسرائيل تسعى إلى تحويلها منطقة عازلة تعويضاً عن التفاهم الضمني مع النظام السوري الذي تقلّص نفوذه الجغرافي عما كان عليه منذ 1974 حتى اندلاع الأزمة السورية. وهو تفاهم ضمن أمن إسرائيل واحتلالها الجولان، مقابل ضمان أمن النظام واستمراريته من قبل دول الغرب التي تشكل أولوية أمن إسرائيل المقياس الأساسي من سياساتها في المنطقة. أما إيران فإن تمددها إلى هذه الرقعة الجغرافية يزيد من إمكاناتها التفاوضية مع الغرب الذي يسعى إلى الحد من نفوذها الإقليمي.
يصعب فهم ما حصل بمعزل عن الصراع الدائر قبيل التسوية المفترضة بين دول الغرب وإيران بعد تمديد المفاوضات عليها حتى حزيران (يونيو) المقبل، لا سيما أن انتهاء هذه التسوية إلى رفع العقوبات عن إيران، وهو الأساس الذي ترمي إليه، ليس مرتبطاً بالتوافق على البرنامج النووي فقط بل يشمل «ضبط» الانفلاش الإيراني على الصعيد الإقليمي. وإذا كانت حماية النظام السوري شكلت ركناً أساسياً من أركان هذا الانفلاش فإنها تشكل أيضاً مقياساً لأي سلوك في المواجهة مع إسرائيل.
ليس صدفة أن النظام السوري ظهر غير معني بتلك الغارة الإسرائيلية على القنيطرة في 18 الجاري. ومع اكتفائه بالإعلان عنها عبر مصدر مجهول، فإن بشار الأسد مرّر الرسالة علناً حين قال لمجلة «فورين أفيرز» مطلع الأسبوع إن «الإسرائيليين يهاجمون سورية منذ عامين من دون مبرر. هاجموا مواقع الجيش السوري. ما العلاقة بين «حزب الله» ومواقع الجيش السوري؟». وهو استطرد في الحديث عن أن «التعاون» مع إيران شيء والهيمنة الإيرانية (في سورية) شيء آخر ليبعد عنه تهمة التبعية لطهران. وهو أراد بذلك الحؤول دون أي مواجهة بينه وبين إسرائيل، تضعف موقعه أمام خصومه الفعليين أي المعارضين، إسلاميين أم معتدلين، في وقت يشعر بالانتعاش لأن استرداده بعض المناطق من هؤلاء وصموده في بعضها الآخر بدعم إيران، جعل مشاريع التفاوض التي تعمل لها موسكو والتي يقترحها موفد الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا تستبعد ما نص عليه قرار جنيف (2012) بتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحية.
ولو جاء انتقام إيران و «حزب الله» عبر الجولان لكانت مخاطر الرد الإسرائيلي شملت احتمالات كثيرة، بينها قصف مطارات تابعة للنظام أو مواقع حساسة يستفيد منها في تفوقه العسكري على معارضيه. وهذه الاحتمالات كانت لتأتي بمردود عكسي لإيران والحزب، يقود إلى إضعاف النظام مجدداً مقابل خصومه، وهذا يناقض مكسباً جوهرياً حققاه في السنتين الماضيتين. وإسرائيل استبقت هذا الاحتمال بتحميل الحكومتين السورية واللبنانية مسؤولية أي عمل عسكري ضدها من أراضيهما…
بهذا المعنى، لا تعود دقة الحسابات في الرد الذي نفذه «حزب الله» عبر مزارع شبعا، إلى الكفاءة التي نفذت فيها العملية، بل إلى الحرص على النأي بسورية ونظامها عن تلك المواجهة الدائرة، والتي ستبقى احتمالاتها قائمة حتى اتضاح التفاوض الغربي – الإيراني، ومحطته الأولى اتفاق الإطار في آذار (مارس) والثانية في حزيران.
ولا يمكن التكهن كيف يمكن لتلك المواجهة أن تنزلق إلى الحرب، على رغم أن لهذا الانزلاق حسابات أخرى. لكن الأكيد أن هذا الاحتمال يخيّم فوق لبنان قبل سورية، على رغم أن الوجود الإيراني وحّد الجبهتين.