Site icon IMLebanon

شقّ “فتح” وحرب طرابلس: طريق القدس لا تمرّ في دمشق

 

صراع الحياة وما بعد الوفاة بين الأسد وعرفات (2 من 4)

 

ما بدأته إسرائيل في اجتياح لبنان 1982 ضدّ ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية أكمله رئيس النظام حافظ الأسد. إسرائيل طردت عرفات من بيروت وأجبرته على نقل مقرّ المنظمة إلى تونس. والأسد شقّ «حركة فتح» ونفّذ انقلاباً على عرفات وأكمل طرده والقوى التابعة له من سوريا ومن شمال لبنان والبقاع، وأخرجه آخر عام 1983 من طرابلس على ظهر باخرة يونانية كما خرج من بيروت.

بعد انتهاء الحروب التي كان لبنان ساحة لها في العام 1990 امتلك جورج حاوي جرأة العبور إلى الضفة الأخرى من الصراع الذي كان يمثّل قوّة أساسية فيه. عَبَرَ خطوط التماس السابقة للقاء رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في غدراس للبحث في مخارج جديدة للأزمات اللبنانية بعدما كان أجرى مراجعة شاملة لكل مسار العمل السياسي والعسكري في الحرب، ولكل التجربة الصعبة مع النظام السوري. كانت خطوته هذه متزامنة مع سقوط الإتحاد السوفياتي وبحثه عن يسار لبناني جديد.

 

لاحقاً كان لسمير جعجع، من موقع الخصومة السابقة، مواقف لافتة حول تقديره لجورج حاوي كقائد فعلي للحزب الشيوعي في إطار مقارنة للواقع الذي آل إليه الحزب من بعده. لم تستطع قوى الحزب المناهضة له تقبّل الإنعطافة الكبيرة التي أقدم عليها فاختار أن يبتعد عن الأمانة العامة واختارت القوى الأخرى فاروق دحروج خلفاً له. بعد أعوام قليلة صار جورج حاوي رفيقاً سابقاً وخرج الياس عطالله إلى حركة اليسار الديمقراطي. ولكنّ صورة الحزب بقيت ملتصقة بصورة حاوي ولم يتمكّن خلفاؤه من ملء الفراغ الذي أحدثه غيابه.

 

لم يستطع محور النظام السوري و»حزب الله» تحمّل حركة جورج حاوي فاغتيل بواسطة عبوة ناسفة وضعت في سيارته في 21 حزيران 2005. لم يشفع له أنه كان المخطط لعملية محاولة اغتيال اللواء أنطوان لحد التي نفّذتها سهى بشارة، وأنّه كان أحد الذين أطلقوا شرارة العمليات ضد القوات الإسرائيلية من بيروت عبر «جمّول». قبل اغتياله كانت له صولات وجولات في مسرح الصراع بين محوري عرفات والأسد. منذ خروج عرفات بحراً بدأت مرحلة جديدة من الصراع.

 

تونس ليست بديلاً عن لبنان

 

لم يكن مخيم عين الحلوة إلا جزءاً من هذا المسرح. صحيح أنّ المخيم سقط بفعل الإجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982 ولكن تلك لم تكن إلا محطة في تاريخه وتاريخ القضية الفلسطينية في لبنان. شكل الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 محطّة فاصلة في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية و»حركة فتح» وغيرها من المنظمات الفلسطينية. سقطت الأحلام التي كانت تحرّك المؤيّدين للقضية الفلسطينية على مستوى العالم. كان من المفترض أن يؤدي هذا التطور الكبير إلى إعادة النظر بكل استراتيجية العمل الفلسطيني. شكّل لبنان منذ انطلاقة «حركة فتح» عام 1965 أرض الأحلام لبناء هذه الإستراتيجية وعمِلَ عرفات بكل ما أوتي من قوّة على استثمار هذه الساحة بكلّ ما توفّر له من دعم داخلي ودولي، ولذلك شهدت المرحلة بين العامين 1965 و1982 صعوداً كبيراً للعمل الفلسطيني المسلّح على مستوى العالم وكان لبنان والمخيّمات الفلسطينية فيه مسرحاً لتحضير العمليات. إلى هذا العالم انتمى موالون للقضية الفلسطينية من كارلوس الفنزويلي إلى كوزو أوكاموتو في الجيش الأحمر الياباني إلى ألوية بادرماينهوف الألمانية إلى غيرها. لم يكن العمل الفلسطيني المسلح حكراً على «حركة فتح» وحدها إنّما كانت الساحة مفتوحة للتنظيمات كلّها وخصوصاً «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ومسؤول العمليات الخارجية فيها وديع حداد. ولكن «فتح» بتنظيماتها الأمنية والسرّية كانت لها اليد الطولى في هذه العمليات، وفي دعم التنظيمات الأخرى، وفي تجنيد طاقات لبنانية منضوية تحت لوائها. بعد اجتياح 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان خفّ وهج العمليات. لم تكن تونس البعيدة بديلاً عن لبنان في تأمين استمرار الإستراتيجية السابقة بل كانت محطة من أجل استراتيجية جديدة اختارها عرفات وهي التوجه نحو السلام. عندما اختار عرفات أن يتوجه إلى تونس بدل سوريا كان يختار الإفتراق النهائي عن خيارات حافظ الأسد.

 

عين الحلوة والمدرعات السورية

 

منذ العام 1976 بدأ الخلاف الكبير بين الأسد وعرفات. كان مخيّم عين الحلوة أول ساحة شهدت الإشتباكات العسكرية الأولى بين جيش النظام السوري وبين «حركة فتح» وكانت صيدا ساحة المعركة التي تمّ فيها تدمير عدد من المدرعات السورية داخل المدينة. المخيّم نفسه كان أساس انطلاقة العمل الفلسطيني المسلّح مع بداية الحرب اللبنانية. التحشيد الأساسي للحرب انطلق من صيدا مع التظاهرات التي سبقت تاريخ 13 نيسان 1975 والتي كان السلاح الفلسطيني الخارج من المخيّم إلى المدينة هو الداعم الرئيسي لها. بعد صيدا كانت المواجهة الأكبر في حزيران 1976 بين جيش الأسد وبين منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية في بحمدون وصوفر وعلى مدخل بيروت. هذا الخلاف الكبير دفع ثمنه كمال جنبلاط اغتيالاً في 16 آذار 1977.

 

عندما اختار الرئيس المصري أنور السادات الذهاب إلى القدس ومصالحة إسرائيل حصل التقاء ظرفي بين عرفات والأسد في جبهة الصمود والتصدي ولكنّه لم يؤسّس لاتفاق استراتيجي. عندما حصل الإجتياح الإسرائيلي اتّهم الأسد عرفات بأنّه جرّ سوريا إلى حرب لا تريدها ولم تستعدّ لها وتكبّدت فيها خسائر فادحة.

 

دخول «حزب الله»

 

شهدت مرحلة ما بعد الإجتياح الإسرائيلي تطورين بارزين كبيرين: إرسال إيران عبر سوريا طلائع من الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان. هذا الأمر سيؤسّس لما صار يعرف بـ»حزب الله» ولدوره المتصاعد منذ ذلك التاريخ. الأمر الثاني كان عمل النظام السوري على شقّ «حركة فتح» في محاولة للإمساك بالقرار الفلسطيني بشكل موازٍ لسلطة عرفات. بينما كان عرفات يعيد التموضع في تونس ويبحث عن مقرّات جديدة لمنظمة التحرير و»لحركة فتح»، كان النظام السوري يعمل على خطف ما تبقى من الحركة والمنظمات الأخرى في البقاع. بطبيعة الحال خرجت القوات الموالية لعرفات من بيروت والجنوب ولم يشمل الإنسحاب عبر البحر القوى التي كانت لا تزال في البقاع. ومن هناك أطلق النظام السوري ما سمي حركة «فتح الإنتفاضة» بقيادة أبو موسى، بعد اغتيال عدد من كوادر الحركة الذين لم يقبلوا الإنضواء تحت القرار السوري.

 

قبل أن يذهب عرفات في تبنّي الخيار النهائي حاول أن يعود إلى الخيار اللبناني. بطريقة سرّية وبزورق تسلّل ذات ليلة من ليالي شهر أيار عام 1983 إلى شاطئ طرابلس في الشمال. هناك كان مخيّما البداوي ونهر البارد لا يزلان خارج السيطرة السورية وخارج تداعيات الإجتياح الإسرائيلي وخارج دائرة الهجرة القسرية. وكانت في المدينة قوى إسلامية وحزبية مؤيّدة له. ولكن تلك التجربة لم تكن طويلة. تنبّه النظام السوري لما كان يخطّط له الزعيم الفلسطيني خصوصاً أنّه كان يقترب من الحدود السورية. بواسطة قوى فلسطينية مؤيدة له وبتدخّل من جيشه حاصر النظام السوري عاصمة الشمال وشنّ الحرب على المخيّمين الفلسطينيين، فوجد عرفات نفسه أمام حصار جديد، واعتبر أنّ نظام الأسد يكمل ما بدأته إسرائيل. وتحت ضغط العملية العسكرية السورية وتشديد الحصار عليه في طرابلس وبعد تدخّلات عربية ودولية وجد عرفات نفسه أمام قرار صعب جديد يقضي بخروجه مع مقاتليه من طرابلس. في 20 كانون الأول 1983 نقلتهم خمس بواخر يونانية من مرفأ المدينة إلى هجرة وتشتّت جديد بحماية من سفن حربية فرنسية برعاية أميركية ومراقبة إسرائيلية. قبل أن يصل إلى تونس عرّج عرفات إلى القاهرة.

 

في 22 كانون الأول التقى الرئيس المصري حسني مبارك الذي لم يكن قد مضى أكثر من ثلاثة أعوام على توليه رئاسة الجمهورية بعد اغتيال الرئيس السادات وثباته في استراتيجية السلام واتفاقات كامب دايفد. عندما اعتلى عرفات ظهر الباخرة في طرابلس أعلن أنّ «الكفاح لم ينتهِ بعد. سوف نستمرّ حتى نصل إلى القدس، عاصمة دولتنا الفلسطينية». وكانت طريق القدس تمرّ عبر القاهرة وليس عبر دمشق.

 

رحلة جديدة بلا وداع

 

في ميناء طرابلس لم تكن قيادات الحركة الوطنية ورئيس «حركة أمل» نبيه بري في وداع عرفات. ترك عرفات المدينة والسلاح بعهدة الشيخ سعيد شعبان رئيس حركة التوحيد الإسلامي التي جمعت بين صفوفها الجماعات الإسلامية السنية الأخرى. جيش النظام السوري الذي كان خرج من بيروت لم يدخل إلى عاصمة الشمال. ولكنّه كان يخطّط لدخول طرابلس والعودة إلى بيروت. تلك القيادات كانت لها بدايات جديدة مع النظام السوري وفي الصراع الداخلي في لبنان. تحالف وليد جنبلاط وجورج حاوي ونبيه بري مع النظام السوري في الحرب ضد الحكم في لبنان برئاسة الرئيس أمين الجميل وضد «القوات اللبنانية» لإسقاط اتفاق 17 ايار. قبل أن يخرج عرفات من طرابلس كانت «القوات اللبنانية» خسرت في حرب الجبل. وبعد شهرين كانت «حركة أمل» تستعيد السيطرة على بيروت الغربية. ولكن مسرح بيروت كان يتحضّر لمشهد جديد من الصراع بين عرفات والأسد وإلى خلاف بين حاوي وجنبلاط من جهة وبين بري من جهة أخرى للسيطرة على القرار في بيروت، وعلى المخيّمات الفلسطينية فيها في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، وعلى مخيّمات الجنوب في عين الحلوة قرب صيدا، والرشيدية جنوب صور. مرحلة استطاع فيها مخيّم عين الحلوة أن يفكّ الحصار ويتمدّد. هذه المرحلة ستشهد عودة رموز فلسطينية خرجت على ظهر البواخر مع عرفات لتعيد تأسيس القواعد العسكرية في المخيّمات. تلك العودة كانت عبر البحر أو عبر مطار بيروت.

 

يتبع السبت 19 آب

 

الحلقة الثالثة: مخيم عين الحلوة يتسلّح ويفكّ الحصار… أوسلو وفلسطين و»حزب الله» وجسر المطار