لم يكن خافياً أن الضربات المتتالية للمواقع الإيرانية في سورية، سواء منها ما كان عبر ضربات «مجهولة الهوية» أو معروفة المصدر، تمهيد لإفهام نظام طهران أن مرحلة جديدة في التعاطي معه قد انطلقت. من إلغاء الاتفاق النووي من الجانب الأميركي وما تبعه من عقوبات اقتصادية، وصولاً الى تهديدات مباشرة بإسقاط النظام، كلها مقدمات أدخلت إيران في مواجهات لا أحد يمكنه التنبؤ بما ستؤول اليه. فما الفعلي في المعركة المفتوحة؟ وما الذي يدخل في باب التهديدات التي ستبقى نظرية؟
منذ أكثر من عقدين، رست سياسات طهران على التدخل في المنطقة العربية ومد نفوذها اليها، وفق نظرية معروفة في السياسة قائمة على أن تمكين الداخل وتقويته يحتاجان الى مد الأذرع على الخارج، وتوظيفه في خدمة الداخل الإيراني. شكلت الأحداث العربية، منذ الاحتلال الأميركي للعراق، وصولاً الى اندلاع الانتفاضات العربية، الفرصة الذهبية لانتقال نظام طهران الى خارج الحدود. تملك طهران وسائل متعددة للتدخل، استخدمت القوة العسكرية وزجتها في معارك سورية والعراق واليمن، واعتمدت على ميليشيات تابعة لها في التوسع الإقليمي. وكان السلاح الأخطر الذي استخدمه الملالي هو التعبئة الأيديولوجية القائمة على استنفار الصراع المذهبي الذي قام منذ خمسة عشر قرناً، بين القبائل العربية حول الهيمنة على السلطة والموارد، وهو ما عرف بالصراع السني- الشيعي، فشحنت القوى الشعبية بمنطق الثأر واستعادة الحقوق. بات التدخل الإيراني يكتسي قبعة استعادة الحقوق المسروقة، وهو شعار يؤجج المشاعر ويساعد على التعبئة القتالية غير المحدودة.
على امتداد السنوات السابقة، فاض الدور الإيراني كثيراً، وبات عنصراً متدخلاً في السياسات العربية وتقرير مصير الأنظمة. أدار ولا يزال حروباً أهلية طائفية ومذهبية سفكت فيها الدماء، وانتشرت الفوضى بين سكان الدول التي تعاني من التدخل الإيراني. كان نظام طهران أحد العناصر الرئيسة المنتجة والممولة للإرهاب بشتى أصنافه. أخيراً، وبسبب الملف النووي المفتوح أميركياً، وضع التدخل الإيراني في الأقاليم موضع بحث، من الجانبين الأميركي والأوروبي، خصوصاً بعد أن تقلصت المعارك مع الإرهاب. حاولت الدول الأوروبية الفصل بين الاتفاق النووي الذي لا ترغب في إلغائه، وبين تقليص الدور الإقليمي لطهران في المنطقة العربية. يسعى الأميركيون إلى دمج المعركتين حتى الآن.
مقابل التهديدات الأميركية والشروط المطروحة على طهران، سواء بما يتعلق بالاتفاق النووي أو بدور طهران، تنطلق تهديدات مقابلة من الملالي متوعدة ومزمجرة ورافضة الاتهامات الأميركية. لا شك في أن نظام طهران الذي يرفض الخروج من سورية، أو تقليص دوره الإقليمي، يدرك أن هذا الدور مصدر أساسي في قوة إيران الداخلية والإقليمية والدولية. كما تدرك طهران النتائج الخطيرة لانسحابها من الإقليم الى الداخل، وتراه هزيمة للاستراتيجية الإيرانية، التي ستنعكس على توازن القوى الداخلي وتؤثر كثيراً في مصير النظام نفسه. لذا ليس مستغرباً هذا التشبث في البقاء في الخارج، ولو كلفها الأمر الدخول في معارك عسكرية.
لكن السؤال الذي يطرح انما يدور حول حدود الموقف الأميركي والمدى الذي سيذهب اليه في تهديداته. صحيح أن المشهد الخارجي يوحي بوحدة الموقف الأميركي من الاتفاق النووي ومن الوجود الإقليمي لطهران. لكن ما يمكن الذهاب اليه، وفي ضوء النظرة التاريخية الأميركية لنظام طهران، أن أميركا لم تكن يوماً هادفة الى إسقاط النظام. بل العكس، في كل محطات الصراع، كان الأميركيون حريصين عل عدم المسّ بالنظام، فهو حاجة أميركية فعلية، تريده أميركا فزاعة، وإحدى أدوات الصراع في وجه أي تمرد عربي على السياسة الأميركية. لذا من المستبعد أن تذهب أميركا بعيداً في إسقاط النظام على رغم التهديدات المعلنة في هذا الصدد.
لكن، ما قد يكون فعلياً هو رفع العصا الغليظة في وجه الدور الإقليمي لطهران. في هذا المجال، تبدو الأدوات متوفرة، من ضربات التحالف الدولي للمواقع الإيرانية، الى استخدام الذراع الإسرائيلية في إفهام إيران وجوب الانسحاب. في هذه المعركة، تملك الولايات المتحدة أوراقاً واسعة ستلجأ اليها بالتأكيد. هل يعني ذلك أن المنطقة أمام احتمال حرب إقليمية، قد تتوسع بعيداً؟ الاحتمالات متعددة بما فيها الأسوأ، لكنها حرب، إذا وقعت، ستظل خارج الحدود الجغرافية لإيران.
تبقى كلمة للداعين من المعارضة الإيرانية الى اسقاط النظام بالاعتماد على الدور الأميركي. إنها دعوة خطيرة ستساعد النظام على التماسك في الداخل. فالتغيير إما أن يكون بواسطة قوى الاعتراض في الداخل والخارج، أو يسقط في دوامة الولاء للخارج، خصوصاً أن الثقة مفقودة في الدور الأميركي في شأن تخليص الشعوب من طغيان الأنظمة.