يوم الجمعة الماضي، تصاعد الدخان الأبيض من الكسليك معلناً إنتخاب الأب هادي محفوظ رئيساً جديداً للرهبانية اللبنانية – المارونية، تلك الرهبنة التي شكّلت أحد أهم مداميك لبنان التطوّر والعلم والحضارة والمقاومة.
لا تزال صورة الراهب الماروني الذي يحمل المعول ويحفر الصخور ويستصلح الأرض الوعرة في جرود بشرّي وتنورين وإهدن والعاقورة راسخة في ذهن الذاكرة الجماعية المارونية، ذاك الراهب وقف إلى جانب شعبه وفضّل العيش في الجبال باحثاً عن الموارد النادرة في الأرض بدل الإنبطاح للإمبراطوريات والسلاطين وقاوم للعيش بحرية وكرامة رافضاً الذميّة.
وإذا كان نضال الرهبان الموارنة إلى جانب البطريرك أوصل إلى دولة لبنان الكبير، إلا ان المؤسسات التابعة للرهبنة ساهمت بشكل كبير بجعل لبنان نموذجاً يحتذى به، فأول من أنشأ المدارس كان الرهبان من ثمّ دخلوا مجال الإستشفاء فباتت المدارس والجامعات والمستشفيات التابعة للرهبنة إحدى أبرز علامات تفوّق هذا البلد على محيطه.
لكن المرحلة الفاصلة كانت في بداية حرب العام 1975، يومها وقفت الرهبنة اللبنانية – المارونية إلى جانب بقية الرهبانيات وقرّرت عدم التسليم بزوال الكيان وتحويل بلد الأرز إلى وطن بديل للفلسطينيين وقادت المقاومة السياسية بقيادة الأباتي شربل القسيس والأباتي بولس نعمان، وجمعت القوى والأحزاب المسيحية في الكسليك معلنةً قيام «الجبهة اللبنانية» برئاسة الرئيس كميل شمعون وجمعت كل الأحزاب والقوى المسيحية المقاتلة تحت اسم «القوات اللبنانية» وقادت المجتمع المسيحي في أحلك ظرف عندما كان الوجود مهدداً.
نهاية الأسبوع الماضي إنتخب الرهبان الأب هادي محفوظ رئيساً للرهبنة اللبنانية – المارونية التي هي رهبنة حبرية تابعة للفاتيكان، وفاز معه كل من الأب جورج حبيقه نائباً عامّاً والأب ميشال ابوطقة مدبّراً عامّاً، والأب جوزف قمر مدبّراً عامّاً والأب طوني فخري مدبّراً عامّاً، وهذا الأمر يعني التجدّد الدائم في الحياة الرهبانية وانتخاب رجل ذي سيرة حافلة وقاد جامعة الكسليك مرحلة طويلة وجعلها من أهم الجامعات في لبنان.
وتمتد ولاية محفوظ 6 سنوات، علماً أن الموارنة جعلوا من ولاية رئيس الجمهورية 6 سنوات غير قابلة للتجديد متخذين هذا العرف من هيكلية الرهبنة.
وفي السياق، يتساءل من يعرف تاريخ تلك الرهبنة التي أعطت لبنان ثلاثة قديسين هم شربل ورفقا ونعمة الله الحرديني وعدد من الطوباويين والمكرمين السائرين على درب القداسة، كيف ستتصرّف الإدارة الجديدة للرهبنة وهل ستكون إلى جانب البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في معركته السياسية والوطنية الكبرى؟
لا شكّ أن الرهبنة اللبنانية – المارونية التي هي أكبر رهبنة مارونية هي دائماً في صلب المعارك الوطنية، لكن دورها السياسي شبه معدوم وذلك بسبب القرار الذي إتخذ من الفاتيكان العام 1986 بعد انتهاء ولاية الأباتي بولس نعمان والذي كان حازماً وأعاد الرهبان إلى الأديرة ومنعهم من التعاطي بالسياسة وحصر هذا الأمر بالبطريرك الماروني آنذاك مار نصرالله بطرس صفير.
وامام كل هذه الوقائع، فان الدور الذي يقع على عاتق الأباتي محفوظ والإدارة الجديدة، وإن لم يكن سياسياً، إلا أنه كبير جداً ويتجلّى بأن عليه قيادة الرهبنة ومؤسساتها في لحظة الإنهيار الكبير.
ويعلم الجميع أن أهم مؤسسات تربوية ومستشفيات تتبع للرهبنة، وبالتالي فان هذه المؤسسات تواجه خطر الإنهيار، وإذا انهارت سقط أهم عامل تفوّق مسيحي ووطني، لذلك فان الأباتي محفوظ يحمل الصليب الكبير وعليه العمل لإقامة التوازن بين إنقاذ المؤسسات والعمل الإنساني وقدرة بيئته على تحمل الزيادات.
ومن ناحية ثانية، يتوجّب على الأباتي الجديد الوقوف إلى جانب شعبه المتألم والذي يموت على ابواب المستشفيات أو لا يستطيع إرسال اولاده إلى المدارس، كذلك فان ما يستطيع فعله من تخفيف معاناة هو استثمار الأراضي الواسعة التي تمتلكها الرهبنة وعدم التفريط بها لأنها قدّ تشكّل متنفساً في زمن شحّ القمح والموارد الغذائية العالمية.
المسؤولية الملقاة على عاتق الأباتي محفوظ ثقيلة، لكن تاريخ الرهبنة يدلّ على أن الصعاب تقويها وتجعلها ملتصقة اكثر بشعبها وتجترح الحلول، والأباتي الجديد لن يخذل تاريخه وشعبه، في حين أن البطريرك يقود المعركة الكبرى لتحرير لبنان والرهبان جنود خلف البطريرك ويقاومون كل أشكال الذمية التي تجتاح بعضاً من المجتمع المسيحي.
السيرة الذاتية للأباتي محفوظ
– من مواليد الفيدار (جبيل) سنة 1967.
– دخل ابتداء الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة سنة 1984.
– سيم كاهناً سنة 1991.
– حائز على إجازة في علم اللاهوت من كليّة اللاهوت الحبريّة في جامعة الروح القدس – الكسليك، سنة 1991 ودكتوراه في الكتاب المقدس من المعهد البيبليّ الحبريّ في روما سنة 2002.
– رئيس دير مار مارون– عنايا (ضريح القديس شربل) 2001- 2004.
– أمين عام مشارك في مجلس كنائس الشرق الأوسط 2004- 2007.
– رئيس جامعة الروح القدس – الكسليك: 2007- 2016.
– مدبر عام في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة 2016- 2022.
– أستاذ في كليّة اللاهوت الحبريّة في جامعة الروح القدس – الكسليك منذ سنة 2002.