IMLebanon

الأب يقتل ابنه: العقدة الأنتي أوديبيّة في الحراك المدني

تجري منذ تصاعُدِ الحراك المدني غير الطائفي في لبنان محاولة اغتيال معنوي لعدد ممّن باتوا رموزا لهذا الحراك. لنقرأ في السجل الشخصي والمهني لهذه الأسماء كما هو مُدوَّنٌ على بعض المواقع على غوغل.

مروان معلوف محام وأستاذ حقوق وخبير في مجال رصد وسائل الإعلام وناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان وصاحب تجربة في بعض الدول العربية ومنها تونس إلخ….

عماد بزي خبير استشاري في مجال الانترنت وناشط مدني في قضايا حرية التعبير والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان. إلخ….

أسعد ذبيان صحفي ومدوِّن وخبير في مجال الانترنت… وشاعر.

هؤلاء نخبة حقيقية ما كان يمكن أن ترتقي كفاءاتهم من دون تعليمهم وتدريبهم في مؤسسات غربية مثل عشرات ألوف الكفاءات اللبنانية بل الكفاءات من دول أخرى في العالم.

أمثال معلوف وبزي وذبيان سمعتُ وشاهدتُ على التلفزيون العديد من الشباب والشابات ذوي النَفَس القيادي والمتنوِّر يتحدثون بنضج سياسي ملفت ودقة في اللغة المطلبية والسياسية فعلاً تلفت النظر.

أمثال هؤلاء تحاول جهات لبنانية عديدة ( ومتخاصمة طائفيا وإقليميا) أن تشكِّك بشكل وقح بأدوارهم وعلاقاتهم بتهمة باتت عفنة مع أنها يجب أن تكون مصدر فخر لهؤلاء الشباب.

ماذا؟ تهمة الصلة بواشنطن التي لا تتسابق الطبقة السياسية فقط على كسب ودها والتنسيق اليومي معها، بمن فيها الاستثناء الذي انتهى بعد الاتفاق النووي، بل تتلقى أيضا مساعداتها المالية التي تسيطر القوى السياسية اللبنانية على مصادرها “غير الحكومية” الأميركية والغربية عموما.

تُظهِر الولايات المتحدة أنها قوة دفع فكري وسياسي وعلمي الأكثر قدرة في العالم فتواصل احتضانها، لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة، لرعاية نخب شبابية عربية جديدة ضد الاستبداد والمظاهر المرافقة له. واستدراكا لأي جواب أعرف أنه جاهز على هذا الكلام أسمّي ثلاثة بلدان. مصر حيث المشكلة لم تكن الشباب المدني المتنوِّر الذي أطلق شرارة التغيير الديموقراطي في ميدان التحرير بل كانت المشكلة ولا تزال هي الفكر الإسلامي الأصولي من “إخوان مسلمين” إلى “القاعدة” و”داعش” الذين تخوض ضدهم الدولة والجيش المصريان معركة مشرِّفة لحماية الاستقرار والكيان المصريّين. فيما الشباب المسالمون، ولو تعرّضوا لبعض الاعتقالات، فإنهم الآن بمعظمهم خارج السجون بعدما أدركت الدولة المصرية خطأها الأكيد في هذا المجال وباتت متفرِّغة للمعركة ضد الأصوليين.

البلد الثاني سوريا. الانهيار الذي حصل لاحقا فيها لم يكن بسبب مئات الشباب المتنور الذين أطلقوا الثورة المدنية في البدايات عام 2011 بل بسبب عنف النظام الذي واجههم والأهم بسبب العسكرة التي قرّرتها الدول الغربية وبعض الإقليميّة للوضع السوري. ولو بقيت هذه الثورة في إطار المطالب المدنية التي رفعها هؤلاء الشباب لكانت سوريا في وضع مختلف لا وحوش أصولية فيها مهما بلغ عنف النظام.

أما في تونس فالتجربة الشبابية ناصعة وقد تحوّل كثيرون من رواد التغيير عام 2010 إلى قوة مدنية حجّمت الجموح الأصولي وأعادت تونس، شباباً وشابات، رجالاً ونساءً، إلى مسار علماني ديموقراطي حقيقي اضطرت القوة الإسلامية الممثلة بِـ “حركة النهضة”، لأن قيادتها عاقلة، إلى الاعتراف بها والتراجع أمامها.

في لبنان إذاً طبقة سياسية محترفة للعلاقة مع الخارج وبعضها “مولود” سياسيا في الخارج، لا تتورّع عن استخدام تهمة العمالة ضد نخبة جديدة تحاول كسر حلقة النظام الطائفي القوي في لحظة افتضاح إفلاس إدارته للدولة الضعيفة. دائما معادلة النظام القوي والدولة التافهة.

فتحية إلى “العملاء” مروان معلوف وعماد بزي وأسعد ذبيان ومئات الشباب أمثالهم من النخبة الجديدة وعشرات الآلاف من المتظاهرين الذين أيدوهم. تحية لهم بيمينهم ويسارهم. ويمينهم ليس أقل حساسية اجتماعية من يسارهم وإن كانت له أفضلية التقليل من، أو تغييب، الأيديولوجيا. هذه هي أفضلية المدرسة الليبرالية الأميركية على المدرسة الماركسية. الماركسية قوة ثقافية عميقة، الليبرالية قوة عولمة تحديثية. الحراك لا شك أنه تحت تأثير دينامية ليبرالية ولو كان الشيوعيون قوة فاعلة ومشروعة فيه. تلتقي إذن في الحراك وعلى يد جيل شاب ثقافتان احتجاجيّتان قديمة وجديدة، محرّكُها التجديدي يأتي من صفوفها الليبرالية.

من الميزات الكبرى للحراك المدني الجاري في لبنان، ولعلّها الأكبر، أن جميع القوى السياسية الكبيرة منزعجة بل مصابة من هذا الحراك. وهذا وضعٌ لا سابقة له منذ استتباب توازن القوى الحاكم بعد الحرب الأهلية. ويجعل عدم طائفيّته ليس فقط تجميعيةً لناشطين من مختلف الطوائف بل الأهم يجعلها مضمونيّةً من واقع إصابتها للقوى الطائفية.

كل من القوى الرئيسية اصطدمت بالحراك، كليا أوجزئيا، بسبب هذا الشعار أو ذاك: حركة أمل، حزب الله، تيار المستقبل، التيار الوطني الحر، الحزب التقدمي الاشتراكي. إذن كل الطائفيات الرئيسيّة.

ميزة أخرى تمنح  الحراك المدني جدّتَه هي أن الاحتجاج لا يرفض فقط أو يطرح شعارات عامة وإنما يتسم بطرح برامج حلول لمشاكل عملية، مشاكل إدارة دولة. أكثر فأكثر يفاجئنا الحراك، في بعده التكنوقراطي، باختزان معرفة علاجية لم تكن سابقا ميزة حركات الاحتجاج. وعلينا انتظار نتائج الحوار الرسمي الحراكي حول النفايات لنرى كيف ستؤثر مقترحات الحراك العملية في تعديل وجهة المعالجة الحكومية للأزمة الفضيحة. مع العلم أن الحوار نفسه هو ظاهرة جديدة من حيث اعتراف الدولة السياسي أو جزء منها بحق قوى الحراك في تقرير مسار الحل. كان الحوار في وزارة الزراعة أمس الأول أقرب إلى حوار بين جهتين سياسيتين لا إلى مجرد حوار تقني. لهذا علينا أن نراقب من حيث النتائج هل هو فخ للحراك أم نقلة فعلية إلى الأمام؟ مع كل التشجيع الضروري لتعزيزه في مجالات مختلفة.

يجب ألاّ ننسى أن هذا الحراك المحرّك لأفضل ما فينا، الكابت لأسوأ ما فينا، هو قوة فضح لا قوة تغيير. قوة إحراج لا قوة إخراج.

والحملة على بعض رموزه، الحملة على نوع نخبه الجديدة، هي بصورةٍ ما تعبير عن رغبة “الأب” الحانق (النظام الطائفي) بقتل ابنه (النخبة الجديدة في الحراك). عقدة أنتي أوديبية.