بيننا وبين يوم الإنتخابات العامة للرئاسة الأميركية (الثلاثاء 8 تشرين الثاني 2016) مئة وثمانين يوماً. وإذا كانت لن تحدث مفاجأة في أوساط أصحاب القرار المستَتِرين في «الحزب الجمهوري» الذين لا حضور لهم في وسائل الإعلام إلاَّ أنهم الجهة الحاسمة بالنسبة إلى من يترأس البلاد، فإن الملياردير دونالد ترامب هو الذي سيكون الرئيس الخامس والأربعون في تاريخ الولايات المتحدة بدءاً من الرئيس الأول جورج واشنطن (من العام 1789 إلى العام 1797).
منذ بدء المعركة الإنتخابية التمهيدية كان ترامب يحقق الفوز تلو الآخر من حيث الحصول على نسبة عالية من الأصوات في الولايات متقدماً على مرشحين آخرين ما لبثوا في ضوء إنحسار نسبة التصويت لهم أن إنسحبوا من سباق الرئاسة وبقي وحده متسابقاً في الميدان ينافس هيلاري كلنتون عن «الحزب الديمقراطي» في حال خلت ساحة الديمقراطيين لها، أي بما معناه يستقر الأمر على إختيارها وحدها من جانب الحزب لكي تنافس ترامب.
هذا السباق مثير للدهشة. إمرأة تنافس رجلاً وذلك يحدث للمرة الأُولى في تاريخ الرئاسة الأميركية. وإستناداً إلى التسمية الرمزية للحزبيْن فإن السباق سيكون بين «الفيل الجمهوري» و«الحمار الديمقراطي».
حتى الآن نحن كعرب في مقاعد المتفرجين، فيما الميدان الإنتخابي الرئاسي ملتهباً حماسة وتحديات في الدولة الأكثر إرتباطاً بنا والأكثر أهمية بالنسبة إلينا. هذا من حيث الشائع. أما من حيث الواقع فإن الولايات المتحدة هي الأكثر إستخفافاً بأحوالنا وقضايانا. وهذا سببه أن الطرف الأقوى والأكثر إقتداراً في الأمة ونعني بذلك دول الخليج لم تؤسس «لوبي» في الولايات المتحدة يكون من حيث التأثير بفاعلية «اللوبي» المساند لإسرائيل والمعروف بـ «إيباك». ومع أن هنالك المئات من الشخصيات السياسية في الحزبيْن الجمهوري والديمقراطي على علاقة شخصية أو علاقة مصالح مع دول خليجية إلاَّ أن هؤلاء يستفيدون من دول الخليج أكثر بكثير من إستفادة تلك الدول منهم وبالذات عندما تكون هناك أزمات ويحتاج الخليجيون، كلهم أو فُرادى، إلى وقفات من جانب شخصيات أميركية ذات رصيد سياسي إلى جانبهم. ونشير هنا إلى عشرات الشخصيات ومِن بينهم من كانوا في سُدة الرئاسة أمثال جيمي كارتر وجورج بوش الأب وبيل كلنتون قاموا بزيارات وإطلالات موسمية على دول الخليج وأثمرت زياراتهم من حيث تسويق مصالح لمؤسسات وصناعات وشركات في الولايات المتحدة، أما الفائدة المقابِلة منهم فلا أثر لها.
لم يحدث قبل المرشح الرئاسي دونالد ترامب أن كانت مواقف رؤساء خاضوا سباق الرئاسة مثل تلك المواقف التي إتخذها ترامب إزاء قضايا تهمنا. وحتى رونالد ريغان الذي كان أيضاً كثير الحدة في طروحاته لم يتخذ من المواقف كما فعل ترامب الذي وصلت به الحدة، أو فلنقل التشنج، إلى حدّ أنه في أول إعلان تلفزيوني له مطلع كانون الثاني 2016 ركز على الدعوة إلى منْع دخول المسلمين الولايات المتحدة متعهداً بـ «قطْع رأس تنظيم داعش». وهنا كانت سقْطته الأُولى ذلك أنه لم يفرِّق بين المسلمين وبين تنظيم مغضوب عليه أصلاً من غالبية المليار ونصف المليار أبناء الأمة الإسلامية. وإفترضْنا أن الذين يديرون حملته سيستدركون الأمر ويُدخلون تعديلاً جذرياً على السقطة الترامبية ذلك أنه عندما سيمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة فهذا يشمل حكاماً ومسؤولين عرباً وبالذات المئات من المسؤولين الخليجيين الذين يتبادلون الزيارات مع أقرانهم الأميركان. كما أن الأخذ بهذا المنْع يعني أن لا يُشارك الرسميون المسلمون والعرب في الدورة السنوية العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
لكن الإستدراك لم يحدُث بدليل أنه بعد بضعة أسابيع وتحديداً خلال مناظرة يوم الجمعة 11 آذار 2016 بين أربعة مرشحين حاول المذيع منظِّم المناظرة مساعدة ترامب على تعديل موقفه بما يتعلق بالمسلمين وما إذا كان بقوله «إن الإسلام يكرهنا» يشمل جميع المسلمين أم فقط المتطرفين منهم، فإن ترامب أصر على القول «أنا ملتزم بما قلته. أنا أعني الكثير منهم. هناك كراهية هائلة من جانبهم لنا. كما أنهم يسيئون معاملة المرأة». وعندما طالبه «مجلس العلاقات الإسلامية – الأميركية» بتقديم إعتذار عمّا صدر عنه فإنه رفض.
بطبيعة الحال هو لن يتراجع لأنه بموقفه من المسلمين إستقطب قطاعات عريضة من الرأي العام الأميركي، والتراجع كما الإعتذار معناهما أن الذين إصطفُّوا معه سيخذلونه في الإنتخابات العامة. لكن مردود عدم الإعتذار هو في الوقت نفسه إتساع هامش الحذر الدولي منه وبالذات من ملوك ورؤساء عرب ومسلمين عدا بعض الرؤساء في دول أوروبا ومنهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ومن المؤكد أن هذا الحذر أخذ بُعداً جديداً بعدما فاجأ ترامب الأطراف التي لا ترتاح لطروحاته، وتكراراً نقول إن الأطراف الإسلامية هي الأكثر إنزعاجاً، بكلام له في صحيفة «نيويورك تايمس» رداً على سؤال إنه يستثني رئيس بلدية لندن صديق خان من منْع السفر الذي أعلنه للمسلمين مكرراً «ستكون هناك إستثناءات على الدوام«. وهذا الكلام ردّ عليه صديق خان في بيان مهذب جاء فيه قوله «إن رأي ترامب قد يؤدي إلى إبعاد المسلمين المعتدلين وتصب في مصلحة المتشددين مما يجعل بريطانيا والولايات المتحدة أقل أماناً. إن الأمر لا يتعلق بي فحسب، بل بأصدقائي وعائلتي وكل مَن له خلفية مشابهة لخلفيتي في أي مكان من العالم… دونالد ترامب ومَن هم حوله يظنون أن القيم الليبرالية الغربية لا تتماشى مع الإسلام المعتدلةِ. لقد أثبتت لندن أنه مخطئ».
ردّ في غاية التهذيب من جانب مسلم مستقيم الرأي إستطاع الفوز برئاسة بلدية لندن وبأصوات الأكثرية من مسيحيين وأقليات مسلمة ويهودية ومن ديانات غير سماوية، على موقف مسيء من جانب الذي بات على مقربة من الجلوس في المكتب البيضاوي رئيساً للولايات المتحدة في حال لم تحدث صحوة أصحاب الفيل تفرض على ترامب الأخذ بمعادلة جديدة: تصحيح مواقف الحملة الإنتخابية مقابل التسليم بالترؤس. أما أهم ما يجب تصحيحه فهو ما يتعلق بمنْع المسلمين من دخول الولايات المتحدة. والتصحيح واجب وليس إختيارياً خشية أن تقرر حكومات إسلامية في حال بقي ترامب المرشح متمسكاً بموقفه الرد على الموقف بالمثل وبموجب فتوى وإعتبار كل من يُسيء إلى الإسلام ممنوع من الدخول حتى إذا كان المسيء رئيساً للولايات المتحدة. وفي الإسلام تتقدّم الفتوى على طقوس البروتوكول.
… وللحديث بقية.