بعد التقدم السريع الذي أحرزته عملية «درع الفرات» في مرحلتها الأولى على كامل الشريط الحدودي بين جرابلس والراعي وصولاً الى إعزاز، واجهت المرحلة الثانية المخصّصة للريف الشمالي لحلب تحدّيات جدّية ومعقّدة. وتوقفت العملية منذ نحو أسبوعين عند تخوم هذه المنطقة. ولا يعود سببُ ذلك لكون «داعش» زخّمت مقاومتها لهذه العملية، بل لأنّ غطاءَ إجماع شيوخ الفصائل الجهادية السورية على دعمها أو أقلّه عدم تحريمها، انسحب عنها.
يُظهر هذا المعطى أمراً أساساً وهو أنّ تدخّل أنقرة العسكري في شمال سوريا سواءٌ بقوات مباشرة او بالواسطة، لا يمكنه الاستمرار او النجاح، إلّا إذا تأمّن له الغطاء الشرعي الديني من فقهاء الحالة الجهادية السورية.
لقد أظهرت وقائع الاسابيع الاربعة الأخيرة ذات الصلة باندفاعة عملية «درع الفرات»، أنّ تركيا لا يمكنها ممارسة نفوذ ودور كبير داخل سوريا من غير إبراز صفتها كدولة إسلامية، وأيضاً من غير إبرام سلّة تفاهمات على اساس حكم الشرع والفتاوى مع طيف جهاديّي سوريا.
ثمّة ملاحظات اساسية كشف عنها سياق حرب الفتاوى بين مؤيّدي التدخّل العسكري التركي ومعارضيه التي دارت في الاسابيع الاخيرة، والتي كانت مناسبة أيضاً لإظهار ماهية هذه الجبهة (حرب الفتاوى) وأهميّة موقعها داخل مجمل الميدان السوري، وأيضاً مدى تأثيرها الحاسم في تحديد نجاح او فشل التدخّل التركي العسكري في شمال سوريا:
أبرز هذه الملاحظات يتصل بالوقائع التي أدّت إلى خروج جبهة حرب الفتاوى من الظل الى العلن داخل ميدان شمال سوريا، والتي دلّت على مدى علاقتها بالدور التركي في سوريا.
واللافت في هذا المجال أنه منذ دخول عملية «درع الفرات» مرحلتها الثانية المخصّصة لريف حلب الشمالي، تخلّى فقهاء الفتاوي في الفصائل المسلّحة السورية الاسلامية، عن صمتهم حيالها، واعتبروا أنّ استمرارها من عدمه اصبح يحتاج «لفتوى» منهم. وسبب هذا التحوّل يعود الى أنّ النطاق الجغرافي للمرحلة الاولى من عملية «درع الفرات»، كان يحصر فعالياتها العسكرية داخل منطقة نفوذ حدودية تركية صرفة.
ولذا كان يمكن لمشايخ الفصائل الجهادية المقاتلة في سوريا التعامل معها بقليل من الاهتمام، ولكن مع دخول العملية مرحلتها الثانية في الريف الشمالي لحلب، حيث منطقة نفوذ الفصائل المسلّحة السورية، صار يجب تحديد الموقف الشرعي منها انطلاقاً من مصلحة هذه الفصائل.
وبرز رأيان في بيئة فقهاء الفتوى داخل الساحة الجهادية السورية، الأول أفتى بجواز القتال في ريف حلب الشمالي تحت العلم التركي والثاني أفتى بتحريمه. بدا الانقسام شبه عامودي مع ميل في كفته لمصلحة محرّميه.
وأساس النقاش الفقهي حول هذه المسألة قام على مناقشة مفهوم في الفقه الجهادي يسمى «الاستعانة»، ومضمونه يطرح سؤالاً فقهياً (أو مسألة فقهية) وهو: هل يجوز للمسلم الاستعانة بطرف خارجي لقتال عدوٍّ داخلي؟ ومتى يجوز ذلك أو لا يجوز؟
الواقع أنّ الطرف الأول الذي دشّن هذا النقاش الفقهي حول جواز تطبيقات مبدأ «الاستعانة» بالتدخّل العسكري التركي في ريف حلب الشمالي، من عدمه، كان حركة «أحرار الشام» التي أفتت بوجوب القتال ضمن عملية «درع الفرات» وأعلنت انضمامها الى غرفة عملياتها. تُعتبر حركة «احرار الشام» ثاني اكبر فصيل جهادي بعد جبهة «فتح الشام» (النصرة) في سوريا.
وبعد ساعات من موقف «أحرار الشام»، خرج تجمّع «أهل العلم»، (وهو مجلس فقهاء يضمّ شيوخاً من غير فصيل جهادي في سوريا، وكانت الغاية من تأسيسه توحيد الفتوى الجهادية فوق الساحة السلفية العسكرية في سوريا)، بفتوى تحرّم القتال تحت راية تركيا في ريف حلب الشمالي. وسرعان ما اتّضح أنّ «جبهة فتح الشام» استخدمت نفوذها داخل «تجمّع أهل العلم»، لتردّ من خلاله على فتوى «حركة أحرار الشام».
وعلى الأثر، استنجدت الأخيرة بدورها بإطار مشيخي آخر لاطلاق الفتاوى، وهو «المجلس الاسلامي السوري» لتردّ من خلاله على فتوى «تجمّع أهل العلم» ومن ورائه «النصرة».
واتّهم المجلس فتوى «التجمّع» بأنها تستند الى نصوص «فقهاء قدامى» تنقصهم القدرة على بلورة رؤية شاملة للمسألة المطروحة. وفي الجوهر وقع الخلاف الفقهي بين الطرفين على أمر أساسي: «تجمّع أهل العلم» اعتبر أنّ عملية «درع الفرات» منسقة بين تركيا وأميركا، وعليه فإنّ مَن يوالي الكافر الاميركي يجوز تكفيره وقتاله.
ردّت فتوى المجلس الاسلامي السوري، بأنّ تركيا بلد اسلامي موثوق به، وأنها تقاتل عدوَّين تمادياً بالاعتداء، وهما «داعش» وحزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي»، وأنهما مستمران في عدوانهما في ظلّ عدم قدرة الفصائل الاسلامية على إيقافهما عند حدهما، وهذا الواقع في رأي فتوى المجلس، يجعل تطبيق مبدأ الاستعانة بطرف مسلم موثوق لديه العدوّان أنفسهما (وهو هنا تركيا) أمراً جائزاً شرعاً.
ولكنّ فتوى المجلس الاسلامي السوري لم تنسَ وضع قيود وشروط لاستمرار هذا التأييد للتدخل التركي والقتال معه، ودائماً وفق المفهوم الشرعي لمبدأ «الاستعانة».
يؤشر سياق الوقائع ذاته أيضاً الى أنّ الاميركيين دخلوا على خط جبهة الفتاوى المشتعلة بين معسكرَي طيف البيئة الجهادية السورية المؤيّد والمعارض لأنقرة. وحاول الاميركيون من خلال استغلالهم لتناقضات هذه الجبهة تعقيد الامور في وجه إتمام تركيا المرحلة الثانية من عملية «درع الفرات».
حدث ذلك تحديداً، حينما تسلّل جنود اميركيون الى منطقة الراعي وزرعوا الأعلام الاميركية فيها. وقدم هذا التصرف الاميركي خدمة لفتوى «تجمّع اهل العلم»، وساقته بوصفه انه تأكيد لمصداقية ما جاء فيها من أنّ عملية «درع الفرات» التركية توالي الكافر الأميركي، بدليل أنّ التحالف بينهما في منطقة الريف الشمالي لحلب هو برّي أيضاً ولا يقتصر على تقديم غطاء جوّي اميركي في منطقة ما بين جرابلس واعزاز ضد «داعش».
وطورت «جبهة النصرة» الفتوى انطلاقاً من هذه الحادثة لتطالب ليس فقط بعدم جواز القتال الى جانب عملية «درع الفرات» بل يجب قتالها. والملاحظة المهمة في هذا السياق أنّ الجنود الاميركيين عادوا بعد ايام قليلة وانسحبوا من منطقة الراعي، ما يؤشر الى أنّ وجودهم لم يكن لأسباب عسكرية لوجستية.
ويبدو أنّ واشنطن كانت معنيّة باستغلال ما يحدث على جبهة حرب الفتاوى، لرسم خطوط حمر امام عملية «درع الفرات»، وهذه المرة بشكل غير مباشر، وعن طريق رسم «خط فتاوى من مشايخ الجهاديين» يجعل انقرة تحاذر الاقتراب من مناطق شرق الفرات.
وضمن هذا السياق يجدر البحث عن الاسباب السياسية التي جعلت «جبهة النصرة» تحرّض بيئة مشايخ الفتوى التابعين لها، لتعلن الحرب الفقهية على تجاوز عملية «درع الفرات» منطقة خط جرابلس – اعزاز الحدودي والاقتراب من ريف حلب الشمالي المؤدي للباب ومنبج، الخ.
أبرز تعليل سياسي تقدمه «جبهة النصرة» خارج مفهوم «الاستعانة» الفقهي، هو أنّ جذب تركيا لفصائل الجهاد السورية المسلّحة للقتال معها في ريف حلب إنما يضرّ بدعوتها لاستنفار كلّ الفصائل الجهادية للمشاركة بما تسميه «ملحمة فك الحصار عن حلب». وبهذا التعليل تتهم «النصرة» تركيا بأنها تتواطأ، عن قصد او غير قصد، عبر فتح معركة ريف حلب الشمالي في هذا الوقت، مع هدف موسكو لإسقاط حلب.
لا تزال جبهة حرب الفتاوى مفتوحة في وجه تركيا لمنعها من التقدم نحو الريف الشمالي لحلب وإبقاء حضورها العسكري المباشر في أضيَق منطقة حدودية، وبعيداً من مناطق الاكراد الذين وصل إليهم أخيراً سلاحٌ اميركي.
يبدو أنه مع تفضيل البنتاغون اولوية تحرير الموصل على الرقة، لم تعد واشنطن تحتاج الإسناد العسكري التركي لطرد «داعش» من عاصمته في سوريا، وهي تنجح الآن في إبقاء تدخّل أنقرة العسكري داخل سوريا وراء خط فتاوي مشايخ الجهاد السوريين، الذي يصادف أنه الخط الاحمر الاميركي نفسه لمنع صدامٍ كرديٍّ تركيّ.