هل تستحقّ فيروز منّا كلّ هذا؟ هل نستحقّ نحن من فيروز كلّ ذلك؟ هل حقاً نستحقّ فيروز؟ لِمَن خُلِقت فيروز؟ لَمين ما زالت نهاد حداد تضحّي وتبذل مِن نفسها لِتلبّي فيروز النداء دائماً؟ لَمين فيروز عم تغنّي؟
بعد أن أصبح اسمُ فيروز يعرِّف عن لبنان، فعندما نُسأل في الخارج: «إنت مِن وين»؟ ونقول مِن لبنان، يكون الجواب بدهشة وسعادة «يعني مِن بلد فيروز؟»، هناك مَن يضع فيروز تحت مِجهر التقويم! ومَن يضع ما تفعله على الصعيد الشخصي أو على الصعيد الفنّي في خانة الصحّ أو الخطأ… مَن يصنّف «رغبتها» بمعايير الجودة… ويشترط عليها في الثمانينات من عمرها ما ستكون عليه هديّتها لجمهورها نوعاً وشكلاً ومضموناً ورسالةً وهدفاً وتوقيتاً.
هل نعلم ما هي ظروف فيروز؟ وما هي إمكانيّاتها؟ ما هي رغباتها؟ وما هي أهدافها؟
انتهج صوتُ فيروز البساطة مهما لبِس من أثواب موسيقية، من الأخوين رحباني إلى زياد وما بينهما، على رغم الفارق بالأنماط والأنواع الموسيقية.
ويبقى صوتُ فيروز هو الأساس بالنسبة لـ«الفيروزيّين»، الذين يرغبون بالاستماع إلى الصوت. وبالنسبة لغير «الفيروزيّين»، فأولئك يحبّون أو لا يحبّون الأغنية بمعزل عن الصوت. وهذا حقّ. ولكنّ فيروز، وبالتحديد اليوم، وهي على باب عامها الـ82، لا تغنّي لأولئك.
فيروز اليوم يمكِن مش عم تغنّي لحدا أو لشي… ويمكِن «هيدي مش غنّية هيدي بس تحيّة» للزوج والفنان عاصي في ذكرى غيابه، ويمكن فيروز تطلّ كما بإمكانها أن تطلّ لتطمئِنَ المنتظرين، لتبلسمَ جراح الشوق، لتشفيَ لوعة الحنين… لتلبّيَ رغبة الملايين الذين يكتبون لها ويراسلونها من خلال ابنتها ريما وعبر صفحاتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، راجين إياها أن تطلّ «في أيّ وقت وكيف ما كان». من دون أن تغنّي من دون أن تتكلّم، أن تطلّ فقط «بلا ولا شي».
هل تعلمون ما تفعله كلمة «مسا الخير» من فيروز بالجمهور في حفلاتها؟ هل تُصدّقون أنّ الدف بين يديها أبكى الآلاف في الحفلات التي قدّمتها في كانون الأول 2011 في البلاتيا-جونيه، وهذه كانت آخر إطلالة لها.
هل تعلمون أنها وبعد أن أدّت أغنيات «إيه في أمل» خلال حفلٍ في البيال عام 2010، حيث أطلقت الألبوم، أنّ الحاضرين في غالبيّتهم خرجوا صامتين وصعدوا إلى سياراتهم ليستمعوا إلى الألبوم ويستزيدون، بعد أن ابتاع كلّ منهم أكثر من نسخة منه… وفي النهار التالي «طُلعت» أصواتُ المنتقدين لنوعيّة ومستوى الأغنيات التي قدّمها زياد لفيروز، و«جَزموا» بأنها لن تعيش… منذ 7 سنوات… «إيه في أمل».
لربما موجة الانتقادات الأكبر كانت عندما غنّت فيروز لزياد «عَهدير البوسطة»، ومنذ بداية تعامل فيروز مع زياد الرحباني تلقّت سيلاً من الانتقادات، وقيل إنها تقدّم أغنيات «خفيفة» وشعبية وكلماتها دون المستوى… حتى إنها عادت وأصدرت حينها ألبوماً كاملاً من أعمال زكي ناصيف، ولكنّ الجمهور عاد وأحبّ وتعلّق بصوت فيروز تغنّي زياد.
بعد 7 سنوات على إصدار آخر عمل فنّي لفيروز، أعلنت ابنتُها ريما الرحباني عبر الفايسبوك عن إصدار ألبوم كامل لفيروز بعنوان «ببالي» خلال أيلول المقبل. وفي 21 حزيران 2017، في ذكرى رحيل عاصي الرحباني الـ31، أطلقت فيروز أغنية من ألبوم «ببالي» تحمل عنوان «لَمين»، مُقتبَسة من أغنية فرنسية للمغني جيلبير بيكو، وتحمل اسم «لمَن تسهر النجمة Pour qui veille l’étoile». وأعاد توزيع الأغنية الموزّع العالمي ستيف سيدويل.
انتقد البعض الأغنية لأنها ليست من أعمال زياد أو تحت إشرافه، أو لأنها «دون مستوى» أعمال فيروز السابقة، أو لأنها قصيرة أو لأنّ فيروز لم تغنِّ كثيراً… أو لأنّ الأغنية مقتبَسة أو مترجَمة عن أغنية فرنسية (لهذه النقطة بحث آخر)… والبعض انتقد فقط لأنّ ريما الرحباني هي مَن أنتجت العمل معتبرين أنها تستغلّ خلافَ فيروز مع زياد… حتى إنّ البعض اتّهم فيروز بسرقة الأغنية، رغم أنّ الإعلان عن الأغنية تمّ عبر الفايسبوك حيث أرفقت ريما كلّ المعلومات!
البعض انتقد كلمات الأغنية «البسيطة» أو «الخفيفة»، متّهمين ريما باستغلال اسم فيروز لتنسب لنفسها صفة الشاعرة. إن كانت الأغنية مقتبَسة كلاماً ولحناً عن الأغنية الفرنسية كيف تكون ريما استغلّت فيروز لـ»تُظهر موهبتها الشعريّة»؟!
في كتاب «فيروز وعلى الأرض السلام» لريما نجم، صورة لافتة لإهداء من فيروز لابنتها الصغرى ريما بخطّ يدها، تقول لها فيه:
«كبرت ريما…
صار في بأصبعا خاتم
مبارح… غنيتلك انتي وزغيري
لتنامي
اليوم… من بعد ما قريت
شعرك… حبيتو وبكاني
اكتبيلي قصيدي
لغنيا»
تقول كلمات أغنية «لمين»: لمين بتسهر النجمة لمين؟ ليه بتخلص العتمة؟ الك أو الي؟ او مش لشي؟ مش لشي… ولا أي شي… لمين بيبكي الحَور لمين؟ ليه الأرض بتدور؟ إلك أو إلي؟ أو مش لشي؟ مش لشي… ولا أي شي…
لماذا اختارت فيروز هذه الأغنية بالذات من الألبوم لتُصدرها في ذكرى عاصي؟ ربما لتقول أو تشكي له أو حتى تعاتبه على غيابه المُبكر… «بعدك لمين بيبكي الحور؟» مشهد بُكاء مخيف وجارف، بُكاء لا يستحقّه أيٌّ كان. الحور بكبره وعظمته، تتساقط أوراقه في الخريف دموعاً لا حدود لانهمارها لتُشكّل سماكة اصفرار على أرض الوجع…
فيروز ترسم لنا بصوتها منذ عرفناه في كلّ ما تغنّي مشهديّات واسعة الأفق. يُقال إنّ أغنية «لمين» قصيرة، لربما أنها فقط تحية، ولربما أنّ فيروز في الثمانين هذا الذي تقدر أن تقدّمه لنا، هل نرفض الهدية؟ في فيلم «بياع الخواتم»، عام 1965، أغنية قصيرة كانت في إطار أحداث المسرحية، حفظناها وبقيت معنا، نردّدها، «طلي اضحكيلو يا صبية».
فيروز غنّت قبل «لَمين»، «تكتك يا ام سليمان» و«يلا تنام» و«التشتشة عالتشتشة»، فيروز غنّت «يخرب بيت عيونِك يا عليا شو حلوين» و»ضاق خلقي يا صبي» و«بتمرق ما بتمرق مش فارقة معاي» و«خبّرني عن اخبارو شو اخبارو انشالله ما بو شي… هيدا جارو ما بفهّم شي…» وتطول اللائحة. إنها روائعنا، روائع طفولتنا وغدنا وأملنا.
فيروز لِمن تغنّي اليوم؟ فيروز تغنّي لمَن يحبسون الدمع كي يُحرِّرَه صوتُها، لمَن يضيء صوتها عينيه بالأمل، لمَن يعيد صوتها النوم إلى لياليه، لمَن يريد أن يعرف فقط أنها بخير. لربما فيروز تغنّي اليوم لنفسها فقط. ويمكن مش إلك ولا لإلي يمكن مش لحدا ومش لشي… مش لأَي شي.
في إحدى المقابلات التلفزيونية لعاصي الرحباني أوائل الستينات، يقول رداً على سؤال: «أم كلثوم خدمت الفن عمراً طويلاً ولا يجب أن يُطرح سؤالٌ حول ما خسِره صوتها».