يتبيّن لدى المدمنين على سماع صوت فيروز بشكل دائم أنّ أسبوع الآلام هو فترة أساسية ومحوريّة لمتابعة هذا الصوت، بل هذا الانشاد، بل هذه الترنيمة الملائكية الساحرة بمختلف أنواعها، ومستوياتها وألحانها. ذلك أنّ صوت فيروز أصبح جزءاً من نشيد الموت والقيامة لدى المسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس على حدّ سواء، ينتظرونه إنتظار الصلاة.
لقد صار جزءاً من كتاب الصلوات لديهم بحيث لا تكتمل شعائرها إلّا ببخور التقدمة حيث يرفع التسبيح والمجد والإكرام لذلك الذي قال فكُنّا. وكانت معنا وبيننا هباتُه وعطاياه وفي مقدمها هبة الايمان والتواضع، والنغم الملائكي الذي هو عطيّة مجانية من الله إلى قلوب المؤمنات المتواضعات وفي مقدمتهنَّ فيروز.
هذه بعض ملامح هذه العطيّة السماوية:
1 – التعبير الصادق عن الحياة، وفي هذا أقترح أن يستمع القارئ هذا الأسبوع إلى فيروز في ترتيلتين: واحدة يوم الجمعة العظيمة حيث ترتل طلبة الآلام ومطلعها من الطقس الماروني: أنا الأم الحزينة… وما من يعزّيها. والثانية يوم أحد القيامة حيث ترتل على الطقس البيزنطي: المسيح قام من بين الأموات… ووطأ الموت بالموت… ووهب الحياة للذين في القبور.
2 – قليلون هم الذين يلاحظون أنّ في صوت فيروز في الجمعة والأحد وفي الترتيلتين تعبيراً صادقاً عن حياة فيروز: حياة المارونية في الدبّية والشوف وأم بستانيّة، وبالتالي فهي تعكس مشاعر الألم والحزن التي طبعت تراتيل الموارنة في صلواتهم طوال تاريخهم تعبيراً عن الاضطهاد والظلم والقسوة التي تعرضوا لها عبر التاريخ. لكأن مريم بلسان فيروز لا تحزن فقط على وحيدها بل على الجماعة المارونية كلها. وحياة الزوجة في العائلة الرحبانية في انطلياس. إنّها العائلة الأرثوذكسية وهو ما يخرجها من نطاق الألم لدى الموارنة إلى نطاق العظمة الامبراطورية البيزنطية مع زوجها عاصي الرحباني والأناشيد الكنسية الأرثوذكسية بنبرتها الآسرة والمليئة بمعاني التحدي والعظمة والانتصار على الموت بالموت فداءً عن الانسانية جمعاء.
3 – إنّ فيروز وهي تعبّر عن حالتي الألم والعظمة في تراتيلها الدينية إنما تعبّر عن شعور واقعي وداخلي تبدو معه تجربتها الفنية في أرقى تجلياتها وكمالها فهي تجربة كما كان يصفها أستاذنا في الجامعة اللبنانية الشيخ عبد الله العلايلي «نزلت وقد لبست ثوبها الكامل» ذلك أنّ ميزة أساسية من مميزات فيروز الفنية أنها ضد التصنّع ومع اقامة معادلة راقية بين الفن والحياة.
وهذه المعادلة هي التي أعطت تراثها الفني مصداقيته وجماله وخلوده في آن. ذلك أنّ الفن الفيروزي والرحباني هو نسخة عن مقاطع حياتية ترتبط دوماً بما هو واقعي ومتزامن لدى التجربة الإنسانية في أفراحها وآلامها وفي توقها الدائم إلى الجمال وهذا ما اكسبها مناعة ومصداقية حتى في وجه محاولات زياد الرحباني للخروج على مقومات المدرسة الرحبانية الفيروزية بصيغة فنية غريبة ومختلفة، لأنها نابعة من ايديولوجية غريبة اعتنقها زياد وشاء أن يطعّم المدرسة: مدرسة أبيه وأمه بها دون جدوى.. إذ جاءت غريبة في المضمون والشكل عما حفلت به مدرسة الرحابنة – فيروز من قيم أصيلة نابعة من أعماق وجودنا الحضاري المشرقي المجتمعي والروحي على حدّ سواء.
4- إنّ التأمّل العميق في تراث المدرسة الرحبانية الفيروزية كمّاً ونوعاً يؤكد بما لا يقبل الشك أننا أمام تراث ضخم من الآيات الفنية التي أغنت ولا تزال تغني عالمنا المعاصر بالبهجة والروعة واللحن الرائع والصوت الحسن. ونحن في هذا لسنا أمام مشهد عادي من الحياة بل نحن مع الرحابنة وفيروز أمام فلسفة الحياة. والحياة عند الثنائي ليست مروراً عابراً بمجرد شهوة جسدية بل هي عالم من القيم والإبداع ولذا بقيت طوال حياة عاصي صراعاً مع الزمن. زمن البقاء في مواجهة الموت الذي تحمله إلى العائلة الرحبانيّة آفة الوراثة. من هنا الإشادة الدائمة «بعهد الولدني» لأن الحياة مضمونة فيه في حين أنها غير مضمونة في زمن الكبر «عم تغلى بقلبي عهد الولدني»!
بناءً عليه، سعى الرحابنة إلى سدّ الفجوة في قدرية التاريخ، معتبرين أنّ مأساة الموت المبكر هي فجوة في لوحة الحياة الإنسانية وهي فجوة لا بدّ من ملئها وإصلاحها. ولهذا شدّدوا على تنفيذ مشروع كامل وهو الالتزام باللوحة الفنية الكاملة نصاً وتلحيناً وصوتاً وأداءً كي تكون تعبيراً عن صورة الكمال كما يراه ويتصوّره عالم الواقع من جانب وعالم القيم والإبداع من جانب ٱخر. على أنّ هذا المشروع الرحباني لم يكن ممكن التحقيق والتنفيذ لولا وجود العطيّة الإلهية عبر السيدة فيروز التي بطاقاتها النفسيّة والفنيّة والانسانيّة، استطاعت أن تحقّق الحلم الرحباني الانساني في أرقى صوره الشعريّة فتجسد في الآن عينه: الصوت الجميل والأداء الرائع وقدرة الخلق كتعبير عن مهمة الانسان في التاريخ. لقد كانت فيروز أمام تحدٍّ مصيريٍّ كبير. ولقد قبلت هذا التحدي وردّت عليه بما يناسب من روعة فنيّة صوتاً وأداءً وبهذا أعطت فيروز معنى جديداً للفن وأخرجته من بضاعة في الأسواق إلى تحدٍّ أخلاقيٍّ ينسجم مع توجّه الرحابنة إلى عالم المثل، عالم الكمال، عالم الحرية والابداع، عالم الحياة!!