في مناسبة مرور خمسة وسبعين عاما على اعلان الاستقلال في الثاني والعشرين من تشرين الثاني – نوفمبر 1943، لا يزال هناك سؤال يطرح نفسه. لماذا لا يزال لبنان قادرا على الدفاع عن نفسه، في حدود ضيقة، ومقاومة من يسعى الى القضاء نهائيا على مؤسساته؟ الجواب ان الصيغة اللبنانية تمتلك من القوة ما يجعل البلد، الذي وصفه غير زعيم عربي بأنّه «هش»، قادرا على التقاط أنفاسه بين حين وآخر. يلتقط لبنان أنفاسه بين حين وآخر، علما أنّ ثمة مؤشرات الى ان الرحلة اللبنانية تقترب من نهايتها، لأسباب مرتبطة بالاقتصاد اوّلا وفي ظل انهيار دول عدّة في المنطقة. في مقدّم هذه الدول تأتي سوريا والعراق حيث المستقبل اكثر من غامض.
في العراق، هناك عجز واضح عن استعادة اللحمة بين مكونات البلد بعد تفكّك النسيج الاجتماعي ووجود تلك الهوّة بين السنّة والشيعة التي عملت ايران على تعميقها وترسيخها. يتبيّن يوميا انّ درجة التغلغل الايراني في العراق اكبر بكثير مما يعتقد. هذا ما لم يفهمه الجانب الاميركي الذي فشل في المحافظة على حيدر العبادي في موقع رئيس الوزراء بمجرد ان ايران وضعت «ڤيتو» على الرجل وأصرّت على إيجاد بديل منه. ظهر انّ هذا البديل (عادل عبد المهدي)، ليس في المستوى المطلوب في حين ان رئيس مجلس النواب محمّد الحلبوسي ليس اكثر من شبيه بالنواب السنّة الستة في لبنان الذين ينتمون في الواقع الى «حزب الله». يضغط الحزب من اجل إيصال احد هؤلاء النوّاب الى موقع وزير في الحكومة الجديدة. مثلما استطاعت ايران اختراق السنّة في العراق، تعمل حاليا على اختراق السنّة في لبنان عبر تابعين لها ليس لديهم سوى الحقد على سعد الحريري و»تيّار المستقبل» الذي اثبت بالملموس انّه تيّار سياسي خارق للطوائف والمناطق.
فشلت انتفاضة العراقيين على الوضع القائم. قمعتها الميليشيات التابعة للأحزاب العراقية التابعة لإيران. لم نعد نسمع عن البصرة والظلم اللاحق بها. كل ما نسمع عنه هو المساواة بين رواتب عناصر «الحشد الشعبي» (الميليشيات المذهبية)، الذي يعتبر النسخة العراقية لـ«الحرس الثوري» في ايران، كي تكون في مستوى رواتب عناصر الجيش العراقي.
يظل الاستثناء الوحيد في المشهد العراقي رئيس الجمهورية برهم صالح، الذي يعتبر رجل الدولة الوحيد في العراق. يسعى برهم صالح، وهو كردي مستنير يعرف ما يدور في العالم، الى الدفاع عن مصالح العراق والمحافظة عليها والانفتاح على المحيط العربي من دون تجاهل ايران. ولكن ما الذي يستطيع عمله شخص واحد وحيد لا يمتلك ما يكفي من الصلاحيات في بلد ينخره الفساد والجهل من جهة وقد انهار فيه النظام التربوي من جهة أخرى؟
ليست سوريا افضل من العراق. بل هي أسوأ منه. اذا اخذنا في الاعتبار حجم الدمار الذي أصاب بنيتها التحتية فضلا بالطبع عن المجتمع، لا يعود مجال لاي كلام عن امكان استعادة الكيان السوري. عملت ايران على تغيير التركيبة السكانية لسوريا بغطاء من النظام الذي لا همّ له سوى البقاء مسيطرا على دمشق، ايّا يكن الثمن الواجب دفعه الى أي جهة خارجية، بما في ذلك إسرائيل. امّا روسيا الساعية الى إعادة اللاجئين الى ارضهم والى إعادة اعمار سوريا، فهي لا تمتلك الوسائل التي تسمح لها بتنفيذ سياستها. وهذا عائد قبل ايّ شيء آخر الى اعتقادها ان في سوريا مؤسسات يمكن البناء عليها. لم يكن في سوريا مؤسسات في يوم من الايّام منذ انقلاب 1963. كانت هناك، منذ ما قبل احتكار حافظ الأسد للسلطة في مثل هذه الايّام من العام 1970، أجهزة امنية. لم تكن هذه الاجهزة، التي عمل حافظ الأسد على تطويرها، سوى غطاء لاقلّية علوية سيطرت على البلد واخذت السلطة والثروة من اهله الذين صاروا مغلوبين على امرهم بعدما صار القمع والابتزاز السياسة الوحيدة التي يحسن النظام ممارستها.
ماذا ستفعل روسيا بالورقة السورية، التي ليست ورقة؟ لن تستطيع ان تفعل شيئا باستثناء انّه يمكن ان تكتشف في يوم من الايّام ان لا مجال للبناء على شيء في سوريا بعدما ظهر ان المشكلة ليست في دستور جديد بمقدار ما انّها في نظام امني عمل منذ العام 1963 من اجل القضاء على أي امل بقيام دولة مدنية في سوريا…
لدى العودة الى لبنان والذكرى الـ75 لاستقلاله، يبقى هناك امل واحد في انقاذ ما يمكن إنقاذه. يقوم هذا الامل على خلق وعي على الصعيد الشعبي لخطورة ما تقوم به ايران من اجل فرض وصايتها على البلد. هل يمكن خلق مثل هذا الوعي الذي يحتاج اوّل ما يحتاج الى من يفهم اهمّية المعادلات الإقليمية والدولية في الوقت ذاته. يكفي التمعن في ما يجري في سوريا والعراق، كي يكتشف اللبنانيون ان الميليشيات المذهبية لا يمكن ان تكون حلا. على العكس من ذلك، انّ الدور الوحيد الذي يمكن لهذه الميليشيات لعبه يتمثّل في تدمير ما بقي من المؤسسات. هناك مؤسسات لا تزال صامدة في لبنان. عمر هذه المؤسسات من عمر الاستقلال وهي ثمرة العهود الثلاثة الاولى التي مرت على لبنان. عهد بشارة الخوري، عهد كميل شمعون، عهد فؤاد شهاب.
هذه المؤسسات مكنت لبنان من العبور الى العام 2018. هذه المؤسسات مكنت لبنان من الصمود على الرغم من جريمة اسمها اتفاق القاهرة المشؤوم الذي وقع في العام 1969 وعلى الرغم من عهد الميليشيات المسيحية والمسلمة التي كان يغذيها النظام السوري مثلما كان يغذّي الجماعات الفلسطينية المسلحة. فعل ذلك من اجل الحصول على ضوء اخضر أميركي واسرائيلي في بداية العام 1976 كي يدخل عسكريا الى لبنان. لم يصل النظام السوري الى حدّ فرض وصايته الكاملة على لبنان الّا في العام 1990 عندما احتلّ قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة في ظروف تكشف الى ايّ حدّ كان هناك غباء مسيحي في تلك المرحلة. انّه غباء جعل هناك من يعتقد ان ثمّة مستقبلا لصدّام حسين وانّ في الإمكان الرهان عليه وعلى نظامه، خصوصا بعد مغامرته الكويتية وما سبقها من كلام فارغ عن قوّة الجيش العراقي وعظمته!
يواجه لبنان، بعد ثلاثة ارباع القرن على الاستقلال، تحديات في غاية الخطورة تعود الى غياب الوعي لدى اللبنانيين لاهمّية المحافظة على ما بقي من مؤسسات الدولة. نعم، هناك خوف على لبنان في هذه الايّام. في أساس هذا الخوف وجود ميليشيا مذهبية تسعى الى تحقيق اختراق لدى السنّة، على غرار ذلك الذي حققته لدى المسيحيين. تتمدد هذه الميليشيا في كلّ الاتجاهات في غياب القدرة لدى المسيحيين، على وجه التحديد، على استيعاب المعادلات الإقليمية والدولية ومعنى ما يدور في سوريا والعراق ومغزى ذلك وابعاده.