إعتاد اللبنانيون في مناسبة «عيد بشارة السيدة مريم العذراء» أن يشهدوا احتفالاً ذا طابع إسلامي مسيحي مشترك ينطلق من تقديس المسلمين والمسيحيين معاً للسيدة مريم، وتشكلت في هذا الإطار مجموعة تعاونت على تنظيم هذه الاحتفالات وإعطائها الطابع الجامع، وترسيخ مفاهيم الحوار والتلاقي، رغم صدور بعض الانتقادات التي تعترض على بعض الشكليات وكانت موضع حوار ونقاش وسبيل تقارب مع أصحاب النظرة النقدية إلى هذا النشاط.
أدّت ظروف وباء كورونا وتفجير مرفأ بيروت والظروف القاهرة التي شهدها البلد، إلى غياب الاحتفال بعيد البشارة، لتبقى العطلة الرسمية تذكّر بهذا الحدث الجليل في ظروف تعصف باللبنانيين قهراً وظلماً وإفقاراً.
اللافت هذا العام دخول وزارة الثقافة على خطّ هذه المناسبة، وتنظيم وقيام وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى، هو نفسه صاحب المرافعة التهديدية الشهيرة في مجلس الوزراء، والذي أعلن أنّه سيمشي مع النائب المطلوب للتحقيق علي حسن خليل على المنارة، متحدياً القضاء والقوى الأمنية أن تلقي القبض عليه، الوزير المرتضى، هو نفسه، الذي يدعو إلى حضور احتفالية «فرنسيس والسلطان» يوم الجمعة ٢٥ آذار ٢٠٢٢ في قصر الأونيسكو – بيروت، وهي من إنتاج «حراسة الأراضي المقدسة» بالإشتراك مع السفارة الإيطالية في بيروت.
لا يكمن الإشكال في دعوة وزير الثقافة، بل يكمن في شخص وانتماء هذا الوزير.
من الناحية المبدئية، فإنّ الاحتفال بعيد بشارة السيدة مريم هو ذو طابع ديني ترعاه الكنائس وتشاركك فيه تأسيساً ومتابعةً مجموعة من النخب المسلمة التي شكلت منذ البداية نواة العمل لتكريس هذا اليوم عيداً وطنياً جامعاً للبنانيين.
من هنا، فإنّ دخول وزير الثقافة بخلفيته السياسية الفاقعة، يفرّغ هذا الاحتفال من قيمته الوطنية، فقد تحوّل إلى مناسبة يجري استغلالها سياسياً بشكل مكشوف، وفقدت معناها الجامع مع تحوّلها إلى منصة تسويق للوزير المرتضى وأساليب الثنائي الشيعي في استغلال المناسبات ذات الطابع الديني المشترك، حيث يجري استثمارها لإطلاق الشعارات الفارغة حول الحرص على العيش المشترك، بينما تجري الممارسات بعكسها تماماً.
إعتدنا على استثمار الشعارات البراقة بشكل فاقع من قبل «حزب الله» وحركة أمل، ولا شكّ أنّ المساحة المفضلة عند هذا الثنائي التلاعب بعناوين العيش المشترك، بحيث تكون جزءاً من «عدّة الشغل» السياسي والإعلامي، فلا يمكن لوزير أعلن ضرب كلّ قيم العدالة في جريمة العصر، وهي جريمة تفجير مرفأ بيروت، أن يكون ناشطاً مدنياً يدعو إلى السلام والتسامح!
ملاحظة أخرى لا بدّ من التطرق إليها، وهي وجود بعض الأشخاص المحسوبين على «حزب الله» كأعضاء في هذا الإطار الإسلامي المسيحي الجامع، وهم لا يحملون من مقومات الحوار والنضال من أجل العيش المشترك شيئاً، لا بل هم أصحاب مواقف حادة وأهل فتنة بين المسلمين، كما هو حال ماهر حمود، الذي لعب أدواراً شديدة السلبية في البيئة السنية.
ليس مفهوماً كيف يمكن أن يتواجد أمثال هؤلاء في إطار جوهره الحوار، بينما هم يحتكمون إلى السلاح والعنف ويؤيدون العدوان على الشعوب والدول العربية؟
كيف يستقيم حضور هؤلاء بمفاهيمهم العقيمة وخلفياتهم ذات الطابع المذهبي، بينما يجري تجاهل شخصيات سنية وشيعية وازنة ذات فضل في مجال الحوار وتطوير العلاقات الإسلامية المسيحية؟
نعتقد أنّ هذا الأمر يستحق المراجعة لإخراج هذا الإطار الوطنية من حالة الاختراق من قوى الأمر الواقع ومنع استغلاله لغايات سياسية تتناقض مع المفهوم الوطني الراقي الذي انطلقت منه فكرة عيد البشارة.
يسجّل للكوكبة الأولى التي سعت لتثبيت عيد البشارة، وفي مقدمتها المدير العام السابق لدار الفتوى القاضي محمد النقري وأمين سر «اللقاء الإسلامي – المسيحي حول سيدتنا مريم» ناجي خوري، فضلُها وسبقها وتصميمها ومثابرتها حتى استطاعت تكريسه في لبنان والفاتيكان، وتمكنت من فرض إيقاعه في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية بشكل إيجابي، وهذا يستدعي الإقرار بضرورة الحفاظ على المعايير التي اعتمدوها في الانطلاقة لتبقى قائمة كضمانة للاستمرار.
إنّ عيد البشارة بدأ بفكرة جامعة بعيدة عن التسييس، وهذا سرّ نجاحه وحصوله على هذا الامتداد بين النخب، وعلى القبول على المستوى الشعبي، لذلك يجب المحافظة عليه بعيداً عن الاختراقات ذات الطابع السياسي، واعتماد المعايير الصارمة في اختيار الأشخاص، وخاصة لجهة الانتماء السياسي، فهذه المسألة يجب أن تبقى بعيداً عن المحاصصة، وإلاّ فقدت رونقها ومكانتها المعنوية الراقية.