إحياء الذكرى الثالثة عشرة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، غداً الاربعاء، اثنان: قبل الظهر في مسجد محمد الامين يلقي فيه الرئيس فؤاد السنيورة كلمة، وبعد الظهر في «بيال» يلقي الرئيس سعد الحريري كلمة. احتفال بكآبة سياسية بعد تفرّق الحلفاء
تتقاطع كلمتا احتفالي 14 شباط عند صاحب الذكرى، وتختلفان ــ كالرجلين في موقعيهما الحاليين ــ في مخاطبته. الأولى، ترتبط بما يريد الرئيس فؤاد السنيورة قوله عن الرئيس الراحل وصداقتهما ومرافقته حقبته وتأكيد ثوابته. والثانية، في ما يعنيه مسار الرئيس سعد الحريري في السرايا منذ عودته اليها قبل 14 شهراً، فضلاً عن إبداء حرصه على الاستقرار والامن والاعتدال وتمسكه باتفاق الطائف والجيش والسيادة، والذهاب الى الانتخابات النيابية وانتظام المؤسسات الدستورية، ومعالجة المشكلات الداخلية والتذكير بالمحكمة الدولية، الى الوقوف وراء السعودية والدول العربية في نزاعاتهما الاقليمية، مع شدّ العصب السنّي في مواجهة حزب الله. مقدار ما يقترب مضمون ذكرى غد الاربعاء من تلك التي سبقتها في 14 شباط 2017، تبتعد تماماً عن مضمون ما قيل في عقد ونصف عقد من الزمن، في تجربة الحريري مع حلفائه وخصومه والشعارات التي رفعها منذ عام 2005. على صورة احتفال غد أيضاً يخوض انتخابات أيار 2018 بلا شعارات ولا عناوين.
لعل اللافت فيها أنها أول انتخابات نيابية عامة منذ عام 2009 لا تجري تحت لافتة الرئيس الراحل، ولا تحمل اسمه وتداعيات الاغتيال، بل على صورة خلفه الحريري الابن، إذ ينخرط فيها ــ للمرة الاولى ايضاً ــ على أنها استحقاق في ذاته، واستحقاقه هو بالذات. لا يركض وراء أكثرية وهمية، وقد جرّبها مرتين على التوالي. لا يقفز على حبال التوتر السنّي ــ الشيعي، إذ جعل الناخب السنّي في استحقاق 2005 ضحية في مواجهة جلاد سوري وحلفائه، واستحقاق 2009 ضحية أيضاً في مواجهة جلاد شيعي. كلا الجلادين بالتناوب قتلا الحريري الأب.
بالتأكيد، في احتفال غد كما في انتخابات 2018، لا يتردد رئيس الحكومة في شدّ العصب السنّي. بيد أنه يقوده هذه المرة الى داخل طائفته، كي تفاضل بين خياراته ومنافسيه، وتكرّس زعامته أو تقوّضها. وقد تكمن في هذه بالذات فضيلة الصوت التفضيلي.
مذ قرّر الذهاب جدّياً الى انتخابات رئاسة الجمهورية في تشرين الثاني 2015 مع النائب سليمان فرنجية، بدأ الافتراق التدريجي للحريري عن حلفائه. يومذاك تجرّأ على سابقة في تجربته السياسية منذ عام 2005، هي اتخاذ مبادرة لا تأخذ في الحسبان حسابات حلفائه الأقربين كالسنيورة ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع والنائب وليد جنبلاط، شركائه الفعليين في خيارات قوى 14 آذار على مرّ أكثر من عقد من الزمن، لكنهم خصوم حقيقيون لفرنجية بما يمثّل. هذه المرة الرجل وحيد في ذكرى أبيه، بعدما تمكّن من التخلص من حلفائه، وتمكّن خصوصاً من التخلص من العبارة التي لم يسعه التنصل منها، مذ قال لجعجع إن الموت وحده يفرّق بينهما.
أولى إشارات افتراقه عن حلفائه كانت الذكرى نفسها: في 14 شباط 2016 انتقد جعجع، وجهاً لوجه وهو أمامه في الاحتفال، لترشيحه الرئيس ميشال عون لشهر خلا، كانون الثاني 2016. قال له عبارته المشهودة: «يا ريت وفّرتوا علينا قبل. مش هيك يا حكيم؟»، في ذكر مباشر للمصالحة المكلفة بين الزعيمين المسيحيين. في 14 شباط 2017 أعيد وصل ما انقطع بين الحليفين في مرحلة جديدة تلت انتخاب عون رئيساً للدولة ــ بعدما صار مرشح الحريري ــ وتأليف حكومة وحدة وطنية حضر فيها حزب القوات للمرة الاولى بثلاثة وزراء وثلاث حقائب. لكن الخيط انقطع تماماً مع الحليف الآخر حزب الكتائب ومجموعة من حلفاء الحقبة الطويلة المنصرمة منذ عام 2005 كمعظم وجوه قوى 14 آذار، وخصوصاً النائب السابق فارس سعيد، الى نشوء تكتل معارض للحريري من داخل تيار المستقبل. اجتمع هؤلاء على رفض التسوية السياسية المعقودة مع عون مباشرة بالقبول به رئيساً للجمهورية، ومع حزب الله على نحو غير مباشر.
مذ عاد الى رئاسة الحكومة، تغيّر الحريري كثيراً في نظر حلفائه القدامى. اضطربت علاقته ايضاً مع جنبلاط الواقف في منتصف الطريق بينه وبين حزب الله، إلا أنه لاذ برئيس المجلس نبيه برّي.
انتخابات أيار بلا لافتة الرئيس الأب ولا تحمل اسمه، بل امتحان خلفه في طائفته أولاً
عشية 14 شباط 2018، أتت الضربة غير المحسوبة من الرياض، حينما احتجز هناك 18 يوماً وسط غموض لم يسع الرجل نفسه ــ الى الآن على الاقل ــ تبديده نهائياً بازاء ما حصل هناك، بل ما أصابه شخصياً، إذ ليس في إمكانه لقاء عائلته المقيمة في المملكة سوى في باريس أو لندن. بحسب ما شاع ولم يُبدّد ايضاً، بعض الضربة غير المحسوبة التي كادت تنهي حياته السياسية لولا عون وبري، باغته به معارضوه في تيار المستقبل والقوات اللبنانية التي لم يلتقِ حتى الساعة، مذذاك، رئيسها. ومن غير الواضح هل يحضر جعجع احتفال غد، وإن دُعي حزبه. أكثر من ذلك، بات معارضو الحريري في تياره ــ من بينهم السنيورة ــ متيقنين من فقدانهم مقاعدهم في انتخابات أيار. أضحى ثمة مَن يجزم بأن رئيس الحكومة، خلافاً لما خبره مع الرئيس ميشال سليمان، يكيّف تياره مع رئيس الجمهورية، لا العكس.
بذلك يدخل على 14 شباط 2018 بلا حلفاء تقريباً، محاطاً بالخصوم من داخل الحكومة وخارجها، ما خلا جداراً صلباً قوياً أسند ظهره اليه هو عون، حليفه الوحيد تقريباً منذ تسوية 31 تشرين الاول 2017، إذا كان لا بد من الأخذ في الحسبان أن رئيس المجلس لم يُزح تماماً زعله، ولم يستقبله منذ أزمة المرسوم في 15 كانون الاول المنصرم، إلا البارحة.
قد تكون المفارقة الأبرز أن الحريري يرأس حكومة أشبه بقنبلة موقوتة، قد تنفجر في أي وقت ولأدنى ذريعة، لكنها لا تنفجر. لا يزال يصرّ على خصومته مع حزب الله، لكنه يقدّم له الحجج الكافية كي لا يشتبك معه: تارة بالقول إن الاستقرار الداخلي يتطلّب وضع الخلافات معه جانباً، وطوراً بإلقاء سلاح الحزب وراء ظهره بالقول إن معالجته إقليمية ودولية.