بعد شهر، تحتفل قوى 14 آذار بذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري. مشهد هذه القوى اليوم يجعل من الصعب الكلام عليها، من دون التحدث عن محاولة المستقبل القبض على قرار المسيحيين، من حلفائه وخصومه على السواء
لن يكفي الشهر الفاصل عن احتفال قوى 14 آذار بذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري لرأب الصدع بين مكوّنات هذه القوى التي كانت تعرّف عن نفسها، بعد عام 2005، بأنها «ثورة الأرز والاستقلال»، وبعد 2009 بأنها «الأكثرية النيابية».
وقد لا تكفي الأيام المقبلة لإعادة جمع ما تفرق أخيراً، حتى لو تراجع الرئيس سعد الحريري عن ترشيح رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، ولو لم يعلن رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع ترشيح رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون. ولا يكفي أن يشارك جعجع في ذكرى اغتيال الوزير محمد شطح لتعود قوى 14 آذار الى ما كانت عليه قبل عشرة أعوام. فردة الفعل التي حصلت أمس على إطلاق الوزير السابق ميشال سماحة، من جانب شخصيات من هذه الأكثرية، تعبر عن حال انفصام تام بين ردة الفعل «العاطفية» استذكاراً لعمليات الاغتيال التي أودت بحياة مجموعة من شخصيات هذه القوى، وبين الازدواجية في الواقع الذي تعيشه والتخبط في اتخاذ مواقف سياسية واضحة.
ذهاب الحريري الى ترشيح فرنجية، والتقارب بين جعجع وعون حول ملف رئاسة الجمهورية، باتا يختصران حال الانشقاق الداخلي بين هذه المكونات. لكن الحدثين هما النتيجة وليسا السبب في ما نشهده حالياً من تمزق داخلي، ومن ردود الفعل الحادّة المتبادلة بين أركان هذه القوى وشخصياتها حول واقع يتردى منذ شهور، لا بل منذ أعوام. ما يحصل هو «تراكم» الأخطاء والمواقف والنظرة الى الواقع الداخلي والقبض على القرار السياسي في التشريع وقانون الانتخاب والرئاسة والحكومة والقرار الاقتصادي، والإبقاء على الثغَر قائمة بحجة الاتفاق في النظرة الاستراتيجية الى القضايا الداخلية والإقليمية. وما يحصل هو نتيجة طبيعية ومنطقية لمسار من الأداء الذي لم يرد أي من المعنيين أن يحاول إصلاحه قبل فوات الأوان.
ليس بسيطاً أن يقدم الحريري على مغامرة من نوع إطاحة كل فكرة 14 آذار من أجل ترشيح فرنجية ويسعى الى إقناع شخصيات هذه القوى به، وأن يعود جعجع الى الإطار المسيحي البحت في احتمال ترشيح عون. لكن يكون تبسيطاً أن نقول إن جعجع يقوم بردة فعل ففط على تصرف الحريري، لأن الخلافات بين المكونين الأساسيين صارت كبيرة ومتنوعة، وكان يفترض أن تحل على مدى الشهور الطويلة، بدل أن تزكّيها شخصيات سياسية معروفة، أحياناً لغايات شخصية بحتة لا تتعدى الإطار المحلي الضيق. وما حصل هو أن الحريري اختار دائماً المنحى الآخر، وذهب بعيداً في التقليل من الاعتراضات المسيحية العامة في تهميش الدور المسيحي، فأراد تكرار تجربة والده في الحكم وحيداً مع الرئيس الياس الهراوي، والعودة من باب المال الى الساحة السياسية، من دون الأخذ في الحسبان كل المتغيرات اللبنانية والمسيحية التي حصلت خلال 25 عاماً.
والمشكلة أن تصرف الحريري لم يبق محصوراً، بدلالاته وتأثيراته المحلية، في الإطار الضيق، بل صار بمثابة شد كباش مع جعجع، بعدما توسعت حلقة المعترضين في الأوساط المستقبلية على أداء رئيس القوات في ملف التشريع وقانون الانتخاب ورئاسة الجمهورية الى حد التجريح. ثمة كلام يقال في حق جعجع، يكاد يقارن بما كان يقوله خصومه اللدودون في قوى 8 آذار، ولا تلغيه محاولات «التطمين» القواتية والحريرية بأن لا شيء يفك «لحمة 14 آذار». بالنسبة الى المستقبل، ارتكب جعجع «الخطأ القاتل»، تماماً كما سبق لعون أن ارتكبه أيضاً، لان كليهما يريد صنع سياسة خارج إطار يرسمه الحريري والمستقبل كما اعتادا أن يفعلا هم وورثة الحريري الأب طوال أعوام. لذا يصبح السؤال المتداول في الكلام السياسي داخل الحوارات الثنائية والموسعة: «لماذا يحق للحريري ما لا يحق لجعجع» تعبيراً حقيقياً عن أزمة لا يعيشها المستقبل مع القوات فحسب، بل مع المكونات المسيحية كافة داخل 14 آذار وخارجها، ولا سيما مع التيار الوطني الحر، على غرار ما حصل بالنسبة الى موقف لبنان في اجتماع وزراء الخارجية العرب، إذ إن المستقبل شن حملة سياسية مركزة على أداء وزير الخارجية جبران باسيل في المؤتمر الأخير حول دور حزب الله، متجاهلاً أن رئيس الحكومة تمام سلام أكد تنسيق باسيل معه في موقف لبنان، ومتابعاً حواره الثنائي مع حزب الله، وكأن شيئاً لم يكن. وكما يحاول أيضاً أن يفعل بالنسبة الى تجاهل مطالب التيار الوطني الحر في الحكومة، أو حتى في حملة سياسية وإعلامية لإبراز مخاطر الإتيان بعون رئيساً للجمهورية، مقابل إظهار إيجابيات الإتيان بفرنجية.
في الأيام الأخيرة، باتت حدة المواقف بين تيار المستقبل والقوات والتيار الوطني الحر، المخفية والمعلنة، تشير الى أن القضية لا تتعلق بحالة آنية وبمشروع رئاسي، بل هي قضية الإمساك بقرار وبمفاصل أساسية في السلطة والاقتصاد والمال، مهما كان ثمن الوصول الى ذلك. على هذا الإيقاع، تتهيأ قوى 14 آذار للاحتفال بذكرى 14 شباط. وحتى الآن، باتت لا تجمعها إلا الذكرى. والذكرى لا تصنع حلفاء كما صار جلياً.