في البداية كان الاغتيال ثم تلته الثورة. اغتيال هزّ العالم أعقبته قرارات مصيرية وضعت البلد على سكّة العدالة والطريق نحو الحرية والسيادة والاستقلال. وثورة أطلقت مساراً جديداً نتجت عنه حركة لا إرادية انطلقت من النفوس، فأخرجت الزمن من ركوده وأطلقت مدّاً بشريّاً غيّر المشهد الوطني برمّته وأنهى مرحلة ظالمة ومُظلمة من تاريخ وطن قرّر أن ينتفض وأن يخلع عنه رداء الإذعان، فكانت بداية تأسيس لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان.
من الرابع عشر من شباط العام 2005 الى الرابع عشر من آذار العام نفسه، مسافة زمنية قصيرة تخلّلها أهم حدث في تاريخ هذا الوطن، مسافة شهدت على شهادة رجل بحجم أوطان اسمه رفيق الحريري وعاشت لحظة عزّ ونشوة انتصار على جلاّد أمعن طيلة عقود، في ضرب الاستقرار وإحداث شرخ بين المكوّنات اللبنانية مذهبيّاً وطائفيّاً. مسافة قصيرة اختزلت سنوات من القهر والاستبداد والعبودية، لكن أبى أصحاب الأرض إلاّ أن يحوّلوا يوم الاستشهاد الكبير، إلى محطّة رئيسية لا يُمكن للتاريخ أن يمرّ عليها، من دون التوقّف عندها وأخذ العبر والدروس منها، والأهم، هو التعلّم بأن الاستقلال والحرية والكرامة، لا يُمكن أن تُستعاد، إلّا بتضحيات وبدماء تتناسب مع حجم الأوطان.
14 شباط، يوم تعود فيه الذاكرة لتختلط بين مشاعر تتأرجح بين الحزن والفرح، بين الحقيقة والخيال. يوم حُفّظ في ذاكرة التاريخ اللبناني الحديث كأبرز محطات النضال التي انتصرت فيها الضحيّة على الجلّاد، فكان قرار شبه جماعي لبناني، بأن يخرج من أرضه أكثر الجيوش التي عاثت في أرضه فساداً وقتلاً ورعباً، جيش يقوده نظام لم يراعِ حرمة الجيرة، فراح ينتهك السيادة ويزرع الموت في كل بيت تماماً كما يتعامل اليوم مع شعبه، لكن ثمن الخروج أو الاندحار كان كبيراً ومؤلماً، لكنه كان محطة فصل بين ماضي حكمته الفتنة، وحاضر تحكمه بالدولة ومؤسساتها الشرعية والدستورية.
يوم سقطت الدماء المكتوبة على جبين لبنان وعلى أرزه وبياض ثلجه، دماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري، استطاع اللبنانيون العبور نحو دولة الشراكة والعيش المُشترك والمناصفة بين الأبناء، تماماً كما أراد الشهيد في حياته. عبروا إلى دولتهم المنشودة التي لا تُميّز بين مسلم ومسيحي ولا بين شرق وغرب، فكان زمن الوصل والتلاقي في وسط العاصمة «ساحة الحريّة» التي كانت بداية الانطلاق لجمهور كان سبّاقاً في التعبير عن حالة الغضب التي انتابته وتوّاقاً إلى الحريّة. في تلك الساحة ومنها، انطلقت ثورة الأرز كالإعصار نحو الاستقلال الثاني، فأكملت طريقها نحو الشمس، على الرغم من مشروع القتل الذي استهدف خيرة قادتها ورجالها، والمؤامرات التي حيكت ضدها، بدءًا من رفض تطبيق مقررات طاولة الحوار والاعتصامات المُقابلة ومحاولة إحراق وتعطيل البلد وضرب مصداقية المحكمة الدولية، وغيرها الكثير من المحطّات السوداء التي ظلّت تستهدف ثورة الأرز وآخرها استهداف الوزير محمد شطح بعبوة ناسفة في «الوسط» أيضاً.
كان الرئيس الشهيد يعطي من ذاته ويجترح الحلول ويقدّم التضحيات وعلى الرغم من ذلك اغتالته أيادي الحقد والغدر، ومن اغتاله أراد ان يقتل أي محاولة تحرّر في لبنان، ولكن الاستشهاد الكبير، أوقد شعلة الحريّة والاستقلال التي ما زالت مستمر بالقوة نفسها على الرغم من مرور اثني عشر عاماً على جريمة العصر. الحريري في ذكراه اليوم، تبصم له كل القراءات السياسية والوجدانية، بأنه سقط من أجل لبنان ولكل لبنان وليس لفئة مُحددة دون غيرها، وهو الذي تحول إلى مشروع سياسي عابر للطوائف حمل الاستقلال الثاني للبنان، ودعا لبناء الدولة الفعلية فيه. وسوف تبقى هذه المعاني والمبادئ التي أرساها قبل رحيله، في نفوس الأجيال المقبلة وستوّلد على الدوام في داخله، حافزاً للمضي على درب الأمل الذي زرعه فيهم.
من 14 شباط 2005 مروراً بـ 14 آذار ووصولاً الى السادس والعشرين من نيسان العام نفسه، تواريخ لن ينساها اللبنانيون وستظل تتردد داخل كل لبناني حرّ صرخ ذات يوم «حرية سيادة استقلال»، ففي هذه الفترة الوجيزة، عبر الأحرار إلى يومهم المشهود. في التاريخ الأول اغتالت يد الحقد والإجرام أحد أهم وأكبر الرجال العظام الذين مرّوا بتاريخ البلد، وفي الثاني كان إعلان الثورة، أما التاريخ الثالث، فكان موعد خروج نظام الوصاية السوري من أرض الأرز مذلولاً مُنكّس الرايات يجرّ وراءه أذيال الخيبة.
كانت الوحدة الوطنية الهمّ الأساس للرئيس الشهيد رفيق الحريري وعمله اليومي المُضني، تماماً كما كان العيش المشترك من أبرز ما سعى إلى تجسيده في بلد كانت تغلي فيه براكين الطائفية والمذهبية. أشعل البلد بالعلم بعدما أطفأ ظلام الجهل، فراح ينشد أحلام الوطن على مسارح العالم التي ملأها حبّاً وقصائد عن وطن كان يعلم في قرارة نفسه أن ترابه سيكون آخر ما يُمكن احتضانه قبل الانتقال بالجسد، إلى عالم بعيد زمنيّاً وقريب روحيّاً.