لو يستطيع أركان «14 آذار» إيقاف عجلات الروزنامة لفعلوا. فليس سهلاً على بعضهم أن يخبِّئ وجهه عندما تأتي المواعيد الإجبارية: 14 شباط، 14 آذار… وسائر المحطات التذكارية، والتي سقط فيها الشهداء!
في قاعة «البيال»، بعض من أركان «14 آذار» سيغيب وتنوب عنه الشاشة، وبعض آخر سينوب عنه الموفدون. وسيحلّ ضيف جديد على المناسبة لم يكن يخطر في البال… ولا في «البيال» هو طيف النائب سليمان فرنجية، وزير داخلية 14 شباط 2005!
لوحة كانت ستبدو سوريالية في ذلك التاريخ، للضيف ولأصحاب الاحتفال. لكنها باتت واقعية عندما صار الضيف رهان أصحاب الاحتفال، وقد وضعوا كلّ رصيدهم لإيصاله إلى بعبدا.
في بيئة «14 آذار»، هناك بعض المصنّفين «مثاليين» يقولون كاريكاتورياً: اليوم، يخوض تيار «المستقبل» معركة ترشيح فرنجية للرئاسة. فلو فعل ذلك في العام 2005، مع نهاية عهد الرئيس إميل لحود، لكان فرنجية صعد بنفسه يومذاك إلى بعبدا مباشرة، بدعم «حزب الله»، وأقنع حليفه لحود بالخروج من القصر مبتسماً.
ولو حصل ذلك، لكان الجميع في خير: الرئيس الشهيد رفيق الحريري وسائر الشهداء، أمواتهم والأحياء والسياسيون هنا وهناك. وأساساً، لما كانت هناك «14 آذار»، ولا «ثورة أرز».
وفي الموازاة، يسأل بعض جماهير «14 آذار»: لو وافقت «14 آذار» بحمولتها الأولى، الخام، حين كان العماد ميشال عون أبرز وجوهها، على ترشيحه للرئاسة كما وافقت «القوات اللبنانية» أخيراً، هل كان «الجنرال» سيذهب إلى مار مخايل؟
وما يعاني منه البعض من حيرة: هل إنّ «حزب الله» يؤيّد فعلاً وصول عون إلى موقع الرئاسة أم لا، كان يمكن كشفه منذ سنوات. فلماذا التأخّر المُكْلِف؟
وإذا كان «المستقبل» قد استجاب واقعياً لأمنية النائب وليد جنبلاط، وأرجأ المطالبة بنزع سلاح «حزب الله»، وسكت ضمناً عن مشاركته في الحرب في سوريا… إلّا في الخطب الحماسية، فلماذا لم يفعل ذلك قبل اليوم ويريح الناس من مواجهة فاشلة؟
وفيما تنتظر قاعة «البيال» كلماتٍ نارية تستهدف إيران وحلفاءها، يسأل هؤلاء من داخل بيئة «14 آذار»: ما معنى الكلمات النارية فيما تجري محاولات من تحت الطاولة لإبرام صفقة إقليمية يكون فيها القرار للسعوديين والإيرانيين، ويتقبّلها الوكلاء في لبنان طائعين. والدليل هو أنّ أيّاً من عون وفرنجية لن يغرِّد خارج سرب الحلفاء الإقليميين والمحلّيين، إذا أتيح له الوصول إلى بعبدا.
ويقول البعض أيضاً: في الذكرى الحادية عشرة لـ14 شباط، يبدو أنّ هناك «14 آذار» افتراضية، مادتها شاشةٌ وإعلامٌ وأَعلام. وهناك «8 آذار» واقعية، مادتها أدوات تُخطط وتنفِّذ.
ومن العدالة أن يُقال: لعبت ظروف الشرق الأوسط ضدّ المحور الداعم لـ«14 آذار»، فخسروا معه. وواجه أركان هذا الفريق بالصدر العاري عمليات المواجهة الدموية معهم.
ولكن من العدالة الاعتراف أيضاً بأنّ البعض في هذا الفريق تعاطى مع التحدّيات بمستوى أقلّ من عادي، فيما المرحلة أكثر من إستثنائية. ومنذ اللحظة الأولى، أيْ منذ الحلف الرباعي، ذهب هؤلاء إلى المساومات اللبنانية التقليدية التي كانت أساساً في أصل المأزق، وفي جعل لبنان أسير الوصاية السورية لسنوات طويلة.
تحت طائلة اندلاع فتنة مذهبية، سار تيار «المستقبل» في المساومات، ومشى معه الحلفاء. وفرضت القوى الإقليمية إبقاءَ لبنان ساحة صراع بينها. وسقط خيار «14 آذار» الأساسي بتحييد لبنان، وهو كان خيار المسيحيين أساساً.
يُسمَع في أوساط الجماهير الـ14 آذارية مَن يقول أيضاً: ربما حقَّق شهداؤنا باستشهادهم كسباً واحداً، وهو أنهم لم يعرفوا إلى أين ذهب البلد من بَعدِهم. فلو قُيِّضَ لهم، من حيث هم، أن يعرفوا، لاختاروا ربما أن يغمضوا عيونهم ويصمّوا آذانهم ويعودوا إلى الرُقاد. فما يجري لم يكن يخطر على بال. وفي أيّ حال، كانوا سيشعرون بالندم الشديد على استشهادهم… بلا ثمن.
لو أطلّ الشهداء من نوافذ قبورهم، وشاهدوا ما يفعله الرفاق بأنفسهم و»ثورة الاستقلال»، لسألوا: هل استشهدنا ليعود لبنان إلى ما كان عليه، تقريباً، إلى ما قبل 14 آذار 2005؟
وعندما يتقاتل زعماء «14 آذار» على زعماء «8 آذار»، لاختيار أيٍّ منهم الأنسب لتسليمه مفاتيح قصر بعبدا، سيسأل الشهداء أنفسهم: هل يستأهل كلّ هذه التضحيات إسقاط ركن من «8 آذار» وإيصال آخر؟
وعندما ينظر الشهداء إلى التسويات التي كرَّست استمرار كلّ أركان المراحل السابقة، في مواقعهم، سيسأل جبران تويني وسمير قصير وبيار الجميل ومحمد شطح وأنطوان غانم وسواهم: لماذا إذاً رفعنا شعارات التغيير والديموقراطية؟
وعندما ينظر وسام الحسن، سيجد أنّ المساومات تحكم البلد، وأنه فيما يقبع في التراب، يعود ميشال سماحة وآخرون أحياء… ويُرزقون. وسيسأل: إذاً، لماذا كانت الشهادات كلها، والشهداء؟
أما الرئيس رفيق الحريري فالأفضل له ألّا يطلّ من نافذةٍ في الضريح، على ساحة الشهداء، لئلّا يسأل: وينُن؟ وَيْن صْواتُن، وَيْن وْجوهُن؟
لعلّ أوْجَعَ ما يعانيه شهيد هو اكتشافه أنّ استشهاده لم يكن مطابقاً للمواصفات، أيْ إنه ليس شهيداً، بل ضحية. والفارق بين الشهيد والضحية كالفارق بين المقاتل والقاتل.
في أسبوعٍ بدأ بالرماد، أكثر ما يؤلم الشهداء هو اكتشافهم أنّ «14 آذار» كانت من التراب، وإلى التراب تعود!