إنتفاضة وعيد وتفاهم وحب وموت وتفجير
شهر لا يشبه غيره من الشهور لا طولاً ولا هيبة، من أشهر الشتاء لكن رائحة الصيف فيه، غريغوري التقويم لكنه الأخير في الإنتماء إليه. شهر «أعور» كما يصفه القدماء، قصير لكنه ليس ثلاثيني بتناقضاته يحدد السنة بين الكبيسة والبسيطة وبيومه الفائض يجعل قسمتها على اربعة صحيحة لا كسور فيها. عدو العجائز ورفيق العشاق، ورغم ان ليس على كلامه رباط إلا أنه في لبنان حافل بتواريخ مصيرية غيّرت مسار هذا البلد.
في بلدان العالم هو شهر آخر من هذه الشهور التي تتوالى وفق الفصول لكن في لبنان له فصول تروى في الثقافة الشعبية كما في الأحداث السياسية والتاريخية… بين شباط السرياني وشباتو الكلداني إله الرعد والزوابع الموصوف بالشدة، و»شبوت» الآرامي الذي يعني الصوت أو الصولجان، وفبراير الانكليزي تلتبس التسميات لكن يبقى الفعل واضحاً ومكتمل المعالم ويحمل الكثير من صفات لبنان وتقلب أحداثه بين الصحو والمطر ومزاجه بين العقل والجنون:» راح العاقل كانون وإجانا شباط المجنون»…
تواريخ شباط: عز وانهيار
في التاسع من شباط يحتفل لبنان بعيد مار مارون أب الموارنة والراهب السرياني المتنسك، وكلمة مارون في الغة السريانية بحسب المراجع تصغير للفظة «مار» والتي تعني السيّد، وبدورها هي تصغير للفظة «موران» والتي تعني «سيد السادة أو السيد الأكبر». فشباط إذا يحتفي بـ»سيد السادة» في لبنان وإن حرد كبار أبنائه وأبوا مشاركة الطائفة عيد مؤسسها وقداسه الاحتفالي…فمار مارون ورغم أن «عينه ضيقة» كما يقال غالباً ما يسامح رؤساء لبنان وموارنته على أخطائهم وخطاياهم.
وإذا كان عيد مار مارون هو نقطة القداسة في شهر شباط وسان فالنتين موعد للحب فيه، فإن تواريخ لبنانية كثيرة في هذا الشهر لا تمت للقداسة ولا للحب بصلة ساهمت في تغيير وجه لبنان وحرف مساره.
انتفاضة 6 شباط التي قادتها حركة أمل عام 1984 فرضت واقعاً جديداً في السياسة اللبنانية أدى الى سحب الجيش اللبناني من بيروت وإعطاء حركة أمل السيطرة التامة على بيروت الغربية والضاحية الجنوبية ومهدت لعودة السوريين الى بيروت وزعزعت عهد الرئيس أمين الجميل وخياراته السياسية والعسكرية. وأعادت صياغة التوازنات الداخلية كما الإقليمية والدولية إنطلاقاً من لبنان. كما يقول محمد عبيد.
6 شباط الأول ألحق بعد اثنين وعشرين عاماً بـ 6 شباط ثانٍ شهد توقيع مذكرة التفاهم بين التيار الوطني الحر و»حزب الله»، تفاهم وقّعه السيد حسن نصرالله والجنرال عون في كنيسة مار مخايل عند مدخل الضاحية الجنوبية. مذكرة ركزت في بندها الأول على الحوار والشفافية والصراحة، وتغليب المصلحة الوطنية على أي مصلحة أخرى… ورسمت خريطة جديدة للسياسة اللبنانية نقلت لبنان بعد ذاك الشباط الى مرحلة متشابكة المصالح يدفع اليوم أغلى أثمانها.
وفي 27 شباط من العام 1994 كان لبنان على موعد مع حدث دموي أعاد خلط كل أوراقه السياسية ليحرفه عن مسار كان قد بدأه مع بداية الحرب الأهلية ونشوء المقاومة اللبنانية وأبرز رموزها القوات اللبنانية. في هذا التاريخ تم تفجير كنيسة سيدة النجاة الذي ذهب ضحيته عشرة أشخاص وكان السبب المباشر لسجن ومحاكمة رئيس القوات اللبنانية وحل الحزب وتشتيت محازبيه لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ لبنان عنوانها الهيمنة السورية المطلقة.
عيد الحب
بعد 11 عاماً على الهزة العنيفة التي أحدثها تفجير كنيسة سيدة النجاة وما تلاها من أحداث، اهتز لبنان في 14 شباط 2005 هزة أعنف وصلت في قوتها وارتداداتها حد الزلزال المدمر مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري بتفجير قاتل حصد أكثر من عشرين شخصاً فأنطوت برحيله مرحلة إعادة بناء لبنان ما بعد الحرب لتبدأ مرحلة شديدة التذبذب لم تستقر على حال وصولاً الى تفجر الأزمة الحالية. والغريب أنه ذات 6 شباط ثالث عام 2006 اتفقت الحكومة اللبنانية مع الأمم المتحدة على تشكيل المحكمة الخاصة بلبنان بحثاً عن العدالة التي لا تزال حتى اليوم مجهولة مكان الإقامة…
شباط شهر الأحداث المصيرية، تفاهمات واغتيالات وتفجير، كان أيضا الشهر الذي فضح فساد لبنان أمام العالم بعد أن نشرت مراسلة محطة CNN هالا غوراني في 24 شباط 2016 فيديو لنهر النفايات الممتد على طول طريق فرعي في منطقة المتن بعد إقفال مطمر الناعمة وعدم إيجاد الدولة حلاً بديلاً إلا توضيب زبالتها في أكياس بيضاء لتخفي كعادتها القذارة تحت غطاء ناصع…
تلجة شباط
بعيداً عن سوداوية أحداث شباط فإن لهذا الشهر وجهاً أبيض غالباً ما ترسمه العواصف والثلوج على القمم والمرتفعات. لكن من غرائب شباط وصول الثلج الى بيروت في حدث سبق ولادة لبنان الكبير وقد وصف المؤرخ عبد اللطيف فاخوري ذلك اليوم بقوله:
«أفاق سكان بيروت صبيحة الأربعاء 11 شباط 1920 على مشهد تساقط الثلوج بغزارة لم يعرفوا مثلها من قبل، ولم يتمكنوا يومها من فتح أبواب بيوتهم إلا بصعوبة، وأطلّوا من النوافذ ليجدوا أن ارتفاع الثلج بلغ ما بين نصف ذراع وذراع. وتبدل لون القرميد وتعمم بالأبيض الناصع وتغطت الطرق والبساتين والأشجار والأسلاك بالثلوج. لم يعد الناظر يميز بين بيروت والجبل. كما توقفت المركبات عن السير، ومنها عربات الترامواي، وبقيت المحال والحوانيت والإدارات الرسمية والمدارس مقفلة. ولم تصدر الصحف تلك الصبيحة». وبعد ذاك التاريخ الشباطي المأثور صار أغلب البيروتيين، كما يروي زياد سامي عيتاني عبر صفحة تراث بيروت، يعمدون الى تأريخ الحوادث والمناسبات المختلفة في حياتهم وفقاً لتلك الظاهرة المناخية الفريدة، فكانوا عندما يريدون أن يتحدثوا عن أمر ما، يقولون قبل «الثلجة» أو بعدها، وذلك للدلالة على زمن حدوثها…
تفاهم 6 شباط
رغم رائحة الصيف الذي تفوح منه إلا أن برد شباط وغيمه وثلوجه غالباً ما شكلت مصدر خوف لكبار السن وتهديداً بالانتقال الى الدنيا الآخرة، وفي الواقع من منا لم يفقد عزيزاً مسناً في هذا الشهر؟ وتكثر الأمثال الشعبية حول العداء المستشري بين شباط والعجائز ومنها «أول عشرة من شباط لف العجوز بالبساط» وبعضها يرد العداء الى قصة تلك العجوز التي كانت تملك ست غنمات، خرجت ترعاها في أحد الأودية خلال الأيام الأواخر من شهر شباط ولم تهطل خلالها الأمطار وكان الجو صافياً ودافئاً وبدأت تردد «فات شباط الخباط وما أخذ مني لا نعجة ولا رباط، وضربناه على ظهره بالمخباط». وقد أراد شباط ان ينتقم من استخفافها به فنادى آذار قائلاً: «آذار يا ابن عمي تلاتة منك وأربعة مني لنخلي العجوز تغني» ومن هنا سميت هذه الأيام بالمستقرضات وما زلنا حتى اليوم نتبعها لمعرفة أحوال الطقس رغم الخلاف على مواقيتها ومصداقية توقعاتها بين الموارنة والروم. والمستقرضات المتنازع عليها هي سبعة أيام شديدة البرد والمطر في الغالب، وفيها يقول كبار السن «في المستقرضات عند جارك لا تبات». وعادة ما يسبقها ارتفاع في درجة الحرارة يوحي أن البرد قد انتهى، فيحذرون منها قائلين «لا تقول خلصت الشتوية حتى تخلص المستقرضات المَنكية»، «إذا تأخر المطر في شباط عليك بالمُستقرضات». ولكن ليس أية مستقرضات بل مستقرضات الروم تحديداً لأن «ما فيه طرش يقوم، ولا مركب يعوم، إلا بعد مستقرضات الروم» و «لا في قيامة بتقوم، إلا بعد مستقرضات الروم».
جمرات شباط
وفي شباط اللباط تسقط الجمرات التي تبشر بدفء الربيع القادم، وسقوط الجمرة الأولى في 7 شباط كناية عن بداية انتهاء برد الشتاء القارس ( وربما اختلف تاريخها في لبنان الحديث لتصبح جمرة لاهبة في السادس منه)، أمّا سقوط الجمرة الثانية في 14 شباط فتعلن بدء الشعور بدفء الربيع ولهذا ربما ترافقت مع عيد العشاق الذي يشيع الدفء في القلوب، وأما سقوط الجمرة الثالثة في 21 شباط فكناية عن الشعور بحرارة الشمس.
ولا يمكن ان يُذكر شباط من دون ان يتردد في لياليه مواء القطط وقد تحول عواء: «ففي أول شباط تهيج السنانير والسباع، وفي آخره تتزواج الأطيار» فهنيئاً لها ولكل العاشقين بشهر شباط ولو عتب عليه مواليد التاسع والعشرين الذين يزورهم كل اربع سنوات مرة…
متى أضيف شباط إلى التقويم؟
كان للتقويم الروماني الأصلي 10 أشهر فقط، لأن الرومان لم يحددوا فصل الشتاء.
في القرن السابع ق. م.، أضاف الملك الثاني لروما، Numa Pompilius، (وهو ملك أسطوريّ خلف رومولوس) شهري يناير وفبراير إلى نهاية التقويم من أجل التوافق مع المدة التي تستغرقها الأرض فعلياً للالتفاف حول الشمس. كان الشهران الجديدان في الأصل 28 يوماً. وقد كرّس الملك نوما فبراير لنبتون، إله المياه، حيث الأمطار غزيرة للغاية.
في وقت لاحق، في التقويم الجمهوري صار شهر فبراير يترافق مع pluviôse، الشهر الممطر وهو أبرد الأشهر وأكثرها أمطاراً. من حيث الرسوم الأيقونية، يتم تمثيل هذا الشهر على شكل امرأة ترتدي الزي الأزرق، وترفع سترة بحزام، وتحمل بطة في يدها وتسكب الكثير من الماء في جرة.
شباط (فبراير) المعنى والرمزيّة
يشرح السيد جان صدقة المهتم بعلم الرموز والأرقام و مدلولاتها أن شُبَاط هو الشهر الثاني من شهور السنة الميلادية حسب الأسماء العربية الفصحى والأسماء السريانية المستعملة في المشرق العربي. يقابله في التسمية الغربية شهر فبراير. واشتُق اسم شباط من جذر الفعل السرياني «شبط» الذي يعني الضرب والجلد والسَّوط، كما يُطلق على الهبوب الشديد للرياح. وسمي شباط (فبراير) على اسم الإله الروماني Februus. لكن كلمة فبراير تُنسب إلى مهرجان التطهير الروماني المسمى فيبروا Februa، والذي تتم خلاله طقوس غسل الناس من الخطايا. وقد أقيمت احتفالات كبيرة لإعادة تركيز الإمبراطورية على الحياة الصالحة.
وفي معنى شباط ورمزيته كما في طقسه هو شهر انتقالي.