Site icon IMLebanon

الهوى الفيدرالي ومآلاته اللبنانية

 

تعرض بعض القنوات التلفزيونية اللبنانية شريطاً ترويجياً قصيراً يشبه إلى حد كبير الإعلانات التجارية لطرح الفيدرالية كنظام سياسي للبنان وحل للمشكلات والأزمات المزمنة التي يعيشها. الشريط موقّع من «اتحاديون»، وهم مجموعة تضم نخبة يُشهد لها بالمعرفة والعلم والثقافة والوعي السياسي ما يدفع لنقاش موضوعي حول هذا الطرح.

 

لم يقتصر طرح الفيدرالية على هؤلاء، بل باتت تصريحات القادة والزعماء السياسيين لا تخلو من تلميح أو إيحاء أو إشهار، أحياناً بالدعوة إلى الفيدرالية على غرار رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي يطالب «بنظام لا يسمح بالتعطيل عند كل استحقاق»، أو رئيس حزب «الكتائب» سامي الجميل الذي عدَّ «الطلاق» الحلَّ، أو حتى جبران باسيل الذي يغلف مواقفه بنغمة «حقوق المسيحيين» والترويج لحلف الأقليات، إلى عدد كبير من الهيئات والأحزاب الصغيرة. إلى هؤلاء، يأتي دور وسائل التواصل الاجتماعي التي تصب الزيت على النار.

 

الهوى الفيدرالي يأتي بأغلبه من المسيحيين، من دون أن يعني ذلك أن غالبيتهم يريدون الفيدرالية، إضافة إلى قلة من نخب سنيّة ترفض غطرسة «حزب الله» وممارساته. في الواقع، تاريخ المشاريع الفيدرالية ليس بالجديد على لبنان، ويعود إلى تأسيس الكيان حين رأى يومها المسيحيون أن ضم الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان لم يكن لصالحهم، فيما تمسك المسلمون بالأقضية الأربعة من دون جبل لبنان. وللإنصاف نقول إن الزعيمين السنيين عمر الداعوق وعمر بيهم هما أول من اقترح إقامة فيدراليتين، الأولى مؤلفة من جبل لبنان، والثانية من الأقضية التي ضمت إليه في إطار لبنان الكبير.

 

وعلى مدى عمر هذا الوطن، كانت نغمة الفيدرالية أو التقسيم أو غيرهما من مشاريع العزلة عند المسيحيين تعلو وتخبت على وقع ذكريات تاريخية مؤلمة، أو متغييرات إقليمية مثل موجة الناصرية والدعوات إلى الوحدة العربية، وبعدها أحداث عام 1958 وبعدها شبه سيطرة المقاومة الفلسطينية على لبنان بعد توقيع اتفاق القاهرة سنة 1969، وتلا ذلك الدخول العسكري السوري الذي انقلب على الأحزاب المسيحية أو انقلبت عليه أو الاثنان معاً. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أفول هذه الدعوات بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، وانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية وشعار الـ 10452 كيلومتراً مربعاً (مساحة لبنان)، لتظهر مجدداً بعد اغتياله، وتعلو اليوم مع معضلة وجود «حزب الله» ودوره.

 

من دون الدخول في نقاش حول مشروعية هذه المحفزات علماً أن معظمها حقيقي وخطير، ينبغي التذكير بأن دعوات المسيحيين إلى الانعزال والتقسيم في الماضي جاءت عندما كانوا في أوج قوتهم، ويشكلون نصف سكان البلاد أو أكثر قليلاً، ومعظم مفاصل الدولة بيدهم، صحيح بالشراكة مع المسلمين لا سيما عبر رئاسة الحكومة، إنما كانت الغلبة لرئيس الجمهورية حتى سنة 1989 مع التوصل إلى تسوية اتفاق الطائف التي لم تطبق، ما يعني أن شعورهم بالخوف أو بالغبن حينها لم يكن مبرراً.

 

وحتى لا نبقى في الماضي، نعود إلى طرح الفيدرالية اليوم المتصاعد والمتمدد الذي يقتصر على أصوات مسيحية لعلها يئست من استعصاء الحلول وتفاقم الأزمات، إضافة إلى وجود «الفيل في غرفة الخزف» من دون مخارج ممكنة أو متاحة.

 

فهل صحيح أن الفيدرالية متاحة أو ممكنة؟ وهل يمكن تحقيقها من دون موافقة الأطراف الأخرى، حتى لو قدر لها أن تتحقق، هل ستحل مواضيع الخلاف الرئيسية بين اللبنانيين والعالقة منذ عقود وبأشكال وصيغ مختلفة، وتختصر بثلاثة: السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية والأمن، والسياسة المالية والنقدية؟ الخلاف بين الأطراف لا يدور على شق الطرقات ولا على المشاريع الاقتصادية ولا على قانون البلديات أو الانتخابات، إنما على هذه المواضيع. في الصيغة الفيدرالية المتعارف عليها، هذه المسائل هي من صلاحيات الحكومة الفيدرالية، وتالياً سيبقى الخلاف عليها وعلى دور لبنان وتوجهه شرقاً أو غرباً، وعلى حصرية السلاح بيد الجيش والسياسة الدفاعية، واستمرار لبنان دولة مواجهة مع إسرائيل عوض العودة إلى اتفاقية الهدنة أو الحياد. لماذا الافتراض أن «حزب الله» سيقبل بتسليم سلاحه ضمن نظام فيدرالي، والمعلوم أن هذا السلاح مرتبط بدور الحزب الخارجي، ومع إصراره على الاحتفاظ بسلاحه، ستلجأ الطوائف الأخرى لتشكيل قواها الأمنية الذاتية ما يحوّل الفيدرالية إلى تقسيم.

 

إلى كل تلك الموانع البنيوية تبقى ثغرات كثيرة تحول دون هذا الطرح المتوهم، أولاها وأبرزها قدرة القوى الداعية إلى الفيدرالية وإلى جانبها افتراضاً قدرة قوى المعارضة كافة على تحقيق مبتغاها وسط واقع التباينات الذي تعيشه وانعدام مشروع ورؤية للمستقبل. صحيح أنه تقاطعت على اسم مرشح لرئاسة الجمهورية إنما في الوقت نفسه لا تعرف ما هو الثمن الذي عليها دفعه لوصول مرشحها. أو ماذا سيدفع «حزب الله» ثمناً لإيصال مرشحه للرئاسة؟

 

الثغرة الثانية: هل الفيدرالية ممكنة من دون التوافق على الحياد مع بقية المكونات في الوطن ومن دون أن ننسى أن طرفاً رئيسياً من القوى المسيحية سبق أن مثّل 70 في المائة منهم موافقاً على استمرار السلاح بيد «حزب الله» ومؤيداً لدوره في حماية لبنان، ويرى أن سوريا هي الحليف الأول للمسيحيين. أما الثغرة الثالثة فهي تجربة اللبنانيين إبان الحرب الأهلية التي شهدت معارك ومجازر بين الأحزاب المسيحية نفسها من مجزرة إهدن إلى مجزرة الصفرا في إطار ما سمي بتوحيد البندقية إلى الانتفاضات المتكررة ضمن القوات اللبنانية، ومسك الختام كانت حرب التحرير التي خاضها ميشال عون ضد القوات اللبنانية عدا الاغتيالات والتصفيات.

 

إلى كل هذه العوائق، لا توقيت هذا الطرح الخطير ملائم محلياً وإقليمياً ودولياً، ولا المنطقة أو العالم على استعداد لمقاربة هذا النوع من المشاريع والمغامرة الباهظة الكلفة والمجهولة النتائج. منذ نشوء الكيان اللبناني أثبتت التجربة عدم نجاح مشاريع ومبادرات طائفة وحدها بمعزل عن الطوائف الأخرى، وهذا واقع لا مفر منه. عوض الهروب إلى المشاريع الانتحارية تبقى البدائل المتاحة في الإصرار على تمتين العلاقة مع الشركاء من السنة والشيعة المتفلتين من سطوة الحزب للخروج من الاستعصاء، والتطلع إلى المستقبل عوضاً عن الماضي.