Site icon IMLebanon

لماذا قرّر عون وباسيل رفع بطاقة الفدرالية من جديد؟

 

يزعم البعض انّ إعادة إحياء طرح الفدرالية على انقاض جثة دولة مركزية هامدة ، يحاكي وجدان بعض الموارنة بالحنين لزمن “لبنان الصغير”، أو يحاكي وجدان بعض المسيحيين الذين يحنون إلى “الوطن المسيحي” الخالي من التأثير المسلم. الّا انّ توقيت طرح ادبياتها اليوم ليس نتاج مزاج شعبي، بل هو بالدرجة الاولى دليل على مأزق بعض السياسيين المسيحيين، في رهان منهم عليها في سوق البازار السياسي .

ذلك انّ طرح الفدرالية مطلب قديم. عمره من عمر نشوء لبنان كدولة عام 1920. يوم كانت ثمة طروحات حول لبنان فدرالي مع سوريا. وكان لهذا الطرح صدى حتى لدى بعض الموارنة، ومنهم شقيق البطريرك الحويك نفسه.

 

لكن عودة هذا الطرح كانت، على مدى مئة عام، مقرونة دوماً بإيقاعات زعيم مأزوم هنا، أو مشروع زعامة لاهثة لتحسين حظوظها أو تحصين نفوذها هناك.

 

ففي تاريخ 7/7/2015 وفي حديث صحافي، ذهب ممثل “التيار الوطني الحر” في الحكومة آنذاك جبران باسيل، الى التهديد بفرط النظام السياسي المستند الى وثيقة الوفاق الوطني اي الطائف، داعياً الى اعتماد الفدرالية، بحجة انّ المسيحيين مهددون في وجودهم .

 

هذا الطرح قيل حينها انّه منطلق من هدفين اساسيين: الاول هو وصول فريق باسيل الى حائط شبه مسدود في معركة إيصال الجنرال ميشال عون الى سدّة الرئاسة. والثاني، انّه أعلان غبّ الطلب، ليحاكي مشاريع غربية تقسيمية في المنطقة، في سياق المعركة الرئاسية نفسها.

 

هذه الاتهامات التي أطلقها خصوم عون – باسيل، تنبثق من زعم هؤلاء بأنّ هذا الثنائي عون – باسيل، هو آخر ممثل شرعي لثقافة المارونية السياسية. هذه الثقافة المتلازمة مع فلسفة وحيدة: إما أن نحكم لبنان كله… وإما أن نقسّمه لنحكم ما أمكننا من حكمه… دائماً بحسب مزاعم الخصوم. ويستدعي هؤلاء في اتهاماتهم، أنّ عون نفسه، كان أحد المشاركين في خلوة سيدة البير، الفدرالية، مطلع الثمانينيات، وحتى أثناء توليه الحكومة العسكرية آخر الثمانينيات، أطلق مرّة موقفاً مؤيّداً للفدرالية، في ظلّ أزمته السياسية يومها…

 

ظروف الامس القريب، تختلف بلا شك عن ظروف الحاضر، أكان سياسياً، في ظل مرحلة عقاب دولية بمفعول رجعي عن كل ما مضى، أو كان اقتصادياً في ظلّ انهيار اقتصادي ثمن انتشاله سيكون سياسياً بحتاً، أو كان شعبياً مع ظهور مزاج عام جديد بعد ثورة 17 تشرين.

 

الّا انّه وبالرغم من اختلاف الظروف، لا يزال الاشخاص أنفسهم، وما زالوا على حالهم، انما مع اختلاف اسم صاحب المعركة التي تحوّلت من معركة “الأب غير البيولوجي” الى معركة “الإبن الذي لم يُنجب”.

فبين الجنرال وباسيل اختلطت المعطيات اليوم، الّا انّ الاهداف ما زالت نفسها.

 

في الشكل، رفع بطاقة الفدرالية او طرح اللامركزية الادارية والمالية الموسعة، أي المدخل الفعلي لأي طرح كياني على قاعدة الخصوصية الذاتية، وذلك من باب صفقة سلعاتا الكهربائية الغازية، بما تحمله هذه الصفقة من حسابات خارجية، مالية وسياسية، مرتبطة بتلزيم الصفقة للراعي القطري… الّا انّها في المضمون، يحاول البعض التسويق بأنّ شعارات الفدرالية ولدت أيضاً من خوف مثلث الاضلاع يدور في عقل الرجلين:

 

الاول، هو هاجس رئاسة الجمهورية، الذي استنفد من اجله باسيل كل الطرق لإثبات شرعيته لها ومشروعيته المسيحية لقطفها، ما يكاد يستنزف رصيد “الأب الجنرال”. والغرض معروف، ألا وهو تقديم أوراق الاعتماد لحليف تفاهم مار مخايل، بغية انتزاع وعد رئاسي مبكر، فيما جواب الضاحية كان ولا يزال: لم يحن موعد الرئاسة…

 

ثانياً، هو استنزاف معركة وشعار استعادة حقوق المسيحيين، التي لطالما كانت الرافعة الشعبية لجنرال بعبدا، والتي كانت المدخل لشدّ العصبيات المسيحية في كل معارك باسيل الاخيرة، قبل ان ينقلب عليه الاستهلاك الزائد للمناصفة الذي حوّلها من اعتدال الى تطرّف، انتجت ازمة نظام طائفي وصل الى حائط مسدود.

 

خطاب استعادة الحقوق يبدو اليوم وكأنّه عفا عليه الزمن. بعدما اندحر او نحر زمن الاقوياء، ليأتي خطاب الفدرالية كخطاب بديل عنه لإثبات شرعية “الابن الذي لم يُنجب”، من باب مخاطبة الوجدان والمزاج المسيحيين، اللذين اصبحا متململين من ثنائية الحزب والعهد، ويحملاّنهما مسؤولية كبيرة بما آلت اليه الامور من تدهور مالي افقر اعرق البيوت المسيحية، التي لطالما شكّلت رافعة “التيار” منذ قيامه. كما انّه يأتي كشمّاعة جديدة للعب على وتر شدّ العصب المسيحي من جديد، لأنّ مشروعية باسيل الجزئية التي قامت على هذا الجانب تتداعى اليوم، بعد سقوط المشروع الوطني والمؤسساتي امام المحاصصة و”اوفر دوز” الطائفية السياسية، علّها الفدرالية تكون الرافعة في المرحلة المقبلة.

 

ثالثاً، لا يمكن فصل هذه المطالب عن التطورات الخارجية التي ما زال شبح التقسيم يسيطر عليها، من سوريا التي اصبحت مناطق نفوذ بين الايرانيين والاتراك والروس والاميركيين، الى اليمن الذي انشطر بين المتخاصمين، الى فلسطين و”صفقة القرن” وإعادة تفعيل وإحياء جنوب الاردن وسيناء، وصولاً الى العراق المتخبّط والذي لن يجد سبيلاً للسلام، ما دام الصراع الأميركي -الايراني قائماً على اراضيه، امتداداً الى الحدود الدولية العراقية التي تربط طهران ببيروت .

 

في ظلّ الخوف من التقسيم الذي يعصف بالمنطقة، خوف اكبر داخل دائرة “التيار الوطني الحر” من الضغوط الاميركية المتنامية، والتي ستطيح الحزب وحلفاءه، اذا ما بقيت على هذه الوتيرة التصاعدية، من قانون قيصر الى الضغوط المالية والاقتصادية وصولاً الى الفوضى الكبرى.

 

من هنا، فضّلت هذه الدائرة على ما يبدو امساك ورقة تفاوض اخيرة، تبرئها وتحفظ مكانتها، في حال تداعت الامور وتفاقمت اكثر. من جهة تستدرج عرضاً اميركياً، بعد اظهار تمايز عوني عن “حزب الله”، ومن جهة اخرى تنفض ايديها من فشل الحكومة، عبر تصويرها حكومة الثنائي التي لا تدور في فلك “التيار”، الّا من باب رقابة رئاسة الجمهورية على ادائها.

 

بمجمل الاحوال، تبقى دون طرح الفدرالية الباسيلية اليوم، عقبات كبيرة يدركها جيداً المنظّرون لها. اذ انّ المناداة بها من خلفية طائفية، في مناطق غير متساوية اقتصادياً على مستوى الخصائص، ستفرض حياة اجتماعية غير متوازنة وحروباً جديدة، سواء مباشرة او غير مباشرة. حتى وان ذهب البعض حدّ اعتبار انّ “حزب الله” شرع في تطبيق هذه الفدرلة عبر منظومته المؤسساتية، عسكرياً وأمنياً ومالياً وتربوياً وسياسة خارجية وعلاقات دولية وسوسيولوجياً وخصوصاً جغرافياً… حتى اصبحت بحسب البعض أبعد من فدرالية، بل كونفدرالية شيعية أو حزبلاهية، محاذية أو مجاورة لبقايا سلطة دولة ساهمت في انهيارها.

 

بالمحصلة، وبالرغم من المآرب السياسية للفدرالية الموضوعة قيد التداول اليوم، فإنّ استعادة ادبياتها تأتي على وقع وجود طروحات في الأدراج، كطرح “الجمهورية الاسلامية في لبنان” وطروحات في العلن داعية “لإسقاط الطائفية السياسية”، فتكثر الطروحات التي يصغر بعضها إلى حجم كرسي رئاسي او نيابي او دور سياسي… ويكبر بعضها الآخر، حدّ مشروع على امتداد الهلال الشيعي، ويتوسط بعضها البعد الآخر عند حدّ استعادة الحقوق وتغيير النهج والمحاصصة كمدخل للمواطنية الصحيحة.

 

الّا انّه وفي مطلق الاحوال، فإنّ الشعب الذي اختار منذ سنة 1920 النظام المركزي القوي، عبر توحيد لبنان ارضاً وشعباً ونموذجاً لشراكة دينية وحضارية وسياسية يُحتذى بها من الشرق والغرب، اصبح مأزوماً. والبحث عن حل بديل وطني جامع، لا الفردي والحزبي، اصبح اكثر من ضرورة.