ضجّت أخيراً وسائل الإعلام بالتقرير الذي صدر عن الاقتصاد الأميركي كونه أضاف 255 الف وظيفة خلال شهر تموز. وقد يكون أكثر منطقياً أن يُسلّط الضوء على نسبة العمالة الى عدد السكان ما يبيّن أنّ نسبة الأميركيين الذين يتمّ تشغيلهم لم يقترب مما كان عليه قبل الأزمة المالية العالمية الأخيرة.
إذا ما تطلّعنا الى نسب النموّ نرى أنّ الاقتصاد الاميركي وحسب اعتراف «وال ستريت جورنل» يشهد أضعف انتعاش له منذ العام ١٩٤٩ وهنالك كثير من المؤشرات التي تدلّ على ذلك لا سيما:
١- فورد، GM وكريزلر وهي ثلاثة اكبر شركات للسيارات شهدت تراجعاً في مبيعاتها حسب التقديرات المتوقعة بنسب ٣ و١,٩ بالمئة و٠،٣ بالمئة على التوالي.
٢- شركة دلتا للطيران وهي احدى اكبر الشركات في العالم شهدت انخفاضاً في مداخيلها وصلت الى ٧ بالمئة في شهر تموز السابق.
٣- مايسيز وهي اكبر مجموعة بيع بالتجزئة شهدت تراجعاً في شهر تموز ما دفعها الى سياسة عدوانية من ناحية البيع والتسعير وغيرها من حوافز التسويق. أضف الى ذلك العديد من الدلائل والتي توحي أنّ الامور ما زالت غير منتظمة، وتُنذر بعواقب قد تكون شبيهة بالازمة المالية الماضية – فمن ناحية ارتفاع سعر «الليبور» الى اعلى مستوى له منذ الازمة المالية الاخيرة- والليبور هو حرفياً London Interbank Offered Rate أي الفوائد التي تتداولها المصارف بين بعضها البعض لفترات مختلفة وهو حالياً المستوى الأعلى الذي رايناه منذ الازمة الاخيرة ناهيك عن التفاوت الحاصل حالياً بين الـ «Libor» و الـ Overnight Index Swap وهو سعر الاقراض للفدرالي الاميركي والذي زاد ما يعني إشارة ثانية مقلقة – أضف الى ذلك عشرات المؤشرات وأوجه التشابه بين ازمة ٢٠٠٨ وعام ٢٠١٦ ورغم ذلك نرى أنّ وول ستريت تتحدى قوانين الاقتصاد- ويعني أيضاً أنّ الامور قد لا تسير حسب ما يرونه ممّا يؤدّي الى عواقب تعيد الأقتصاد سنيناً الى الوراء.
لذلك قد يكون تقرير العمالة ليس بالقوي كما يجب، علماً أنّ الاحتياطي الفدرالي قد فعل كل ما في وسعه لإصلاح الاقتصاد الاميركي والبرهان على ذلك أحدث البيانات عن اقتصاد اميركا وظروف سوق العمل والتضخم ما يجعل من الصعب جداً أن نفهم لماذا المجلس ما زال يؤجّل عملية تطبيع القاعدة النقدية (M0) وانخفاض اسعار الفائدة على الأموال الفيديرالية وهو السعر الوحيد تحت سيطرته- هذا إذا ما سلمنا جدلاً انه الدور الوحيد للمصارف المركزية.
انما وبالواقع دور المصارف المركزية في الدول المتقدمة وعكسه في الدول النامية لا يقتصر فقط على الفوائد وتطبيع القاعدة النقدية إنما يتخطاه بالمساعدة على دعم الطلب المحلي وخلق السياسات الائتمانية المناسبة وتشجيع الاستثمارات في التكنولوجيات الحديثة ولكنها أمور تتوقف ومعظمها على التعليم واعادة تدريب القوى العاملة والسياسات التجارية وغيرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا الاقتصاد الاميركي لم يقم بقفزة نوعية وتباطأ الاستثمار في ظل ظروف سياسية تجعل من الصعب التكهن على ما سيكون عليه الاقتصاد الاميركي في السنة المقبلة وهي مشكلة خطيرة في سنة الانتخابات الرئاسية حيث على المتسابقين إخبار الأمة عن مخططاتهم لفرص العمل والدخل والرعاية الصحية والخدمات الامنية في البلاد وهو الجدل الحاصل بين كلينتون وترامب ما جعل الاقتصاديين يخشون من أنّ الانتخابات سوف تزيد من مستوى عدم اليقين وتلحق بالاقتصاد اضراراً كبيرة وقد تكون وحسب العديد منهم ذات نتائج سلبية اهم بكثير من نتائج الـ Brexit».
هذا ومؤشر عدم اليقين الاقتصادي «Economic Policy Uncertainty Index» والذي هو مبني على اساس مدى استخدام كلمات معينه مثل السياسات الاقتصادية وعدم اليقين وعدد من الكلمات حول سياسة الاحتياطي الفدرالي وتواترها في الصحف العشر الاولى في الولايات المتحدة، أظهر انه مرتفع جداً فيما يتعلق بالرئاسة الأميركية خصوصاً حسب Nicholas Bloom والذي ساهم في اختراع هذا المؤشر يبدو أنّ ترامب سبب وجيه في ارتفاع هذا المؤشر لا سيما ودائماً حسب Bloom ليست لديه اية خبرة سياسية وتصريحاته مدعاة للشك وليس لديه مستشارين مما يعني أنّ ذلك قد يؤدي ودائماً حسب Bloom الى انخفاض في استثمارالشركات الكبيرة وقد يكون انتخابه يؤثر سلباً في قطاع الصناعات لا سيما وأنّ الرئيس له تأثير مباشر على التجارة كذلك سوف تتأثر قطاعات اخرى مثل الرعاية الصحية والبناء والصناعات الحربية. لذلك قد يكون عامل عدم اليقين اقل بكثير حول كلبنتون لا سيما وانها كانت داخل السلطة وعرفت كيف تختار نائب رئيسها الديمقراطي تيم كين.
لذلك قد نكون بحاجة لمعرفة المزيد عن السياسات الاقتصادية لا سيما وأنّ فترات التيسير الكمي أو المال الرخيص قد انتهت ودخلت اميركا في مرحلة جديدة عليها من خلالها التكيف مع حقائق اقتصادية جديدة. وقد تكون تدابير نقدية وضريبية وهيكلية وسياسات تجارية واجب اتخاذها كي تتماشى مع الادارة النقدية فيحافظ الاقتصاد على نموّه المطّرد.
وهذا من الناحية الفنّية صعب ومعقّد أما من الناحية السياسية فهو بالواقع مستحيل ويتوقف بصورة حاسمة على إيجاد توازن جديد للقوى بين الكونغرس والبيت الابيض والفدرالي الاميركي- وللتجارة الخارجية مجال واسع من المجالات التي يجب إمعان النظر فيها لا سيما وأنّ الاقتصاد الاميركي مفتوح والقطاع الخارجي يمثل حوالى ثلث الناتج الاجمالي والقضايا التجارية ذات اهمية قصوى للنموّ والعمالة واستقرار الاسعار كذلك أنّ العجز التجاري في خانة السلع يمثل ٧٥١ مليار دولار والعجز في الخدمات وصل الى ٤٧٣ مليار دولار أي حوالى ٣ بالمئة من الناتج الاجمالي – وللعلم هذا العجز يشكل عائقاً امام النمو الاقتصادي- والعجز هو جزء من مشكلة كبيرة إذ يجب التطرق ايضاً الي القواعد والممارسات التجارية التمييزية ويجب معالجة هذه الامور من دون حروب تجارية وتعزيز المشاورات ضمن مجموعة الـ ٢٠ وتنفيذ قواعد منظمة التجارة الدولية.
أضف الى ذلك تيسير الاستثمار واستعادته في قطاعات مهمة لا سيما رأس المال البشري وزيادة قدرة الاقتصاد على النموّ بلا تضخّم وكلّ ذلك يتطلب مزيجاً مختلفاً من أدوات السياسة العامة.
هكذا وإن كنت تقبل اقتصادياً دور البنك المركزي في الدول المتقدمة، يجب أن لا يكون لديك أيّ شك بضرورة إجراء تعديل كبير في الائتمان من أجل تحريك الاقتصاد وقد يكون أوّل اللاعبين في السياسة الاقتصادية للدول عموماً ولأميركا خصوصاً مع الاعتراف بديناميكية الاقتصاد الاميركي وتحرّكه بشكل يجعل الأمور كلها تدور حول دور الفدرالي في تنشيط العملية الاقتصادية بشكل عام – ويظلّ عامل عدم اليقين وعلى ما يبدو حالياً سياسياً أكثر منه اقتصادياً وقد يستمرّ فترة لا بأس بها حتى بعد انتخاب الرئيس الجديد.