-
ايران ليست «الدولة الأمة» الوحيدة في العالم التي لها «طابع امبراطوري». عدد غير قليل من دول العالم تحيل على طابع امبراطوري ما. الولايات المتحدة، الصين، اليابان، روسيا، المانيا، بريطانيا، الهند، اندونيسيا، اثيوبيا، تركيا، المغرب، وغيرها. يعني ذلك شيئاً مختلفاً بحسب كل واحدة من هذه الدول. ما هو مشترك؟ النظرة الراسخة في هذه الدول الى كيانها على أنه مركز العالم، وأنّ فضاءها الداخلي وامتداده يشكّل عالماً بذاته، اقليم – عالم. الامبراطوريات ليست من عصور خلت بشكل مطلق. الدول الوطنية لا تلغي البعد الامبراطوري لكثير منها. هذا البعد يترجم تعدّدية شعوب وقوميات في عدد منها، ويترجم ميراثاً من الأمة الامبراطورية المشذّبة في عدد آخر. ما انتهى تاريخياً لم يكن الامبراطوريات بحدّ ذاتها، انما الامبراطوريات التي عجزت عن تكييف نفسها مع فكرة الدولة الوطنية (العثمانية، الهابسبورغية، السوفياتية). في بعض البلدان، يبقى الطابع الامبراطوري كتراث لمجد استعماري جرى تفكيكه (البرتغال وهولندا)، وفي بعض البلدان، ترث المستعمرة الطابع الامبراطوري عن المستعمر (اندونيسيا مثلاً). أكثر من أي معطى آخر، الطابع الامبراطوريّ، حضوره أو غيابه، وشكله، واحالته الى الماضي أو الحاضر أو المستقبل، هو الذي يميّز دولة وطنية عن غيرها. عندما يغيب الطابع الامبراطوري تماماً عن دولة من الدول، فليس معنى ذلك أبداً أن الدولة الوطنية تترسّخ فيها أكثر. فقد يحدث العكس. وعندما يتضخّم الطابع الامبراطوري في دولة وطنية بشكل يتناقض فيه مع استتباب المواطنية فيها، أو يقلب سياستها الخارجية داخلية، والداخلية خارجية، فهذا مؤشّر الى تصدّع يُراكِم مع الوقت.
. الدول الوطنية ذات الطابع الامبراطوري ليست مع ذلك امبراطوريات، وكلّ شيء يتوقف على تمكّنها من عدم الذهاب الى الحد الأقصى في مسارات احياء زمن امبراطوريّ متخيّل تحنّ اليه. لا امبراطوريّات بلا أباطرة. هذا ما ينبغي استذكاره في المقام الأوّل. طبعاً في اليابان الامبراطور ما زال مرتبة شرفية، بل جزء من الوعي القومي اليومي لمعظم المواطنين، وبالنسبة لدول الكومنولث ملكة بريطانيا تبقى امبراطورية بشكل رمزي، لكنه له مفاعيل أساسية لجهة الابقاء على الرابطة العابرة للبحار. رئيس الولايات المتحدة هو في المقابل امبراطور كوني غير متوّج، وينظر له بنفحة رومانية ما، والرئيس الروسي الحالي قيصر لكن من النوع البونابرتي. لكن الحالة التي ينبغي التوقف عندها هي الولي الفقيه الايراني، هذا من بعد امبراطور الحبشة وشاه ايران، آخر حالة امبراطور من الطراز القديم، امبراطور يتناقض استمرار وجوده مع تكيّف الهالة الامبراطورية لايران مع فكرة الدولة الوطنية نفسها.
. تكلّم غير مسؤول ايراني في الآونة الأخيرة عن الامبراطوريّة بمعنى مدّ النفوذ الاستراتيجي لبلاده في الاقليم، وبمعنى اعتبار التجمعات الشيعية في الشرق الاوسط جزءاً من التكوين الامبراطوري الايراني. في المقابل، لا يقدّم المسؤولون ايران نفسها كامبراطورية في داخلها، لأن ذلك سيهدّد الرابطة القومية ويجعلها تبدو رابطة من الشعوب المختلفة، المتفاوتة في الحظوة والمُكنة، بين فرس وتركمان واذاريين وكرد وبلوش وعرب الخ. الا انه لافت في المقابل، حب الحديث عن ايران كـ»عالم قائم بذاته»، خصوصاً عند بعض المتحمسين لنظامها عندنا، الذين حين يُسألون عنها على الشاشات مثلا يسلطنون «ايران ايران .. هذه عالم بذاته»، دون أن يقولوا بعد ذلك جملة مفيدة باستثناء الشعارات السياحية.
. الحركات الاحتجاجية الاثنية والاقليمية في ايران لم تنقطع يوماً. تارة في بلوشستان، تارة في الأهواز. والآن في مهاباد، وغداً في اذربيجان ايران وهكذا. في الوقت نفسه، ينبغي عدم التسرّع وتقدير مفاعيل تهاوي أحجار دومينو انطلاقاً من الحركات الاثنية – الاقليمية. الأدبيات التحليلية المزمنة مثلاً التي ظلت تتوقع انفراط العقد الايراني انطلاقاً من اذربيجان هي عينة على هذا التسرّع في التحليل. في الوقت نفسه، فانّ هذه الحركات الاثنية – الاقليمية وطابعها المتعاقب والمتنقل من حالة الى أخرى، انما تبرز بشكل ضاغط عدم كفاية الاطار الأيديولوجي للجمهورية الاسلامية، والسمة الامبراطورية لولاية الفقيه، لادارة هذا التوسّع وهذا المدى. الدولة الوطنية ذات الطابع الامبراطوريّ يصعب كثيراً أن تكون مستقرّة ومركزية في الوقت نفسه. مشكلة ايران الأساسية اليوم هي في مكابرتها على أي تحوّل فدراليّ داخلها. فدرلة ايران هي مدخل أساسي لكل اصلاح فيها، ولكل اصلاح للعلاقة بينها وبين الجوار. اذا كانت جارتها الشرقية، باكستان، فدرالية، والعراق، لا وحدة له مجدداً الا بالفدرالية، فأقل الايمان أن تكون ايران فدرالية، وأقل الايمان أيضاً أن يكون التناقض الحيوي في ايران اليوم بين ولاية فقيه متعنتة في جمع ما لا يجمع – مركزية دولتها الوطنية المشدّدة والطابع الامبراطوريّ المبالغ فيه، وبين فدرالية أساسية لايقاف مسيرة عقود من ظلم قومية لأخرى داخلها، ومن هدر الطاقات الطبيعية والبشرية على مغامرات وخيبات وسلك «حرسي» يتوهم أنه يمكن وضع الأقفال على المياه الجارية.