IMLebanon

«فيدرالية الحروب» السورية وتأثيراتها اللبنانية

تنذر التطورات السورية بفيدرالية حروب تقسم سوريا إلى مناطق نفوذ. ما يعني لبنان في ظل مخاوف من انهيار الهدنة السورية بالكامل، أن تصبح استحقاقاته رهناً بالاستحقاقات السورية

في غمرة انشغال اللبنانيين بالانتخابات البلدية والاختيارية وبقانون الانتخاب، يتحرك المشهدان العراقي والسوري في صورة متسارعة، الى حد تبدو الانشغالات اللبنانية كأنها تغرد خارج سرب الأحداث الإقليمية المجاورة.

وإذا كان سياق الوضع العراقي أخيراً يشكل في حد ذاته تطوراً لافتاً، إلا أن ما يعني لبنان مباشرة يتعلق بطبيعة الحال بما سيؤول إليه الوضع السوري، الذي تتجاذبه المفاوضات السياسية المتعثرة والعودة المحتملة الى جولة عنف جديدة وواسعة.

منذ أن رسا المشهد السوري على تمركز النظام وبقائه في المناطق المحاذية للبنان، صار الوضع اللبناني أكثر التصاقاً بمصير هذا النظام وبنتائج الحرب المستعرة. لكن بقدر ما يسعى النظام السوري الى إحكام سيطرته في هذه المناطق عسكرياً وسياسياً، يتأكد يوماً بعد آخر واقع جديد يصفه مصدر سياسي لبناني بأنه «فيدرالية الحروب السورية».

فحين اندلعت الحرب السورية قبل سنوات، أفرزت الاشتباكات والتدخلات الإقليمية قوتين: النظام والمعارضة، التي حملت لاحقاً صفة الجيش السوري الحر وفصائل متفرقة. لكن تطور الحرب أدى الى أن تفرز المعارضة نفسها لتصبح أجنحة عدة وتظهر الى جانبها تنظيمات جديدة؛ أكثرها بروزاً «داعش» و»جبهة النصرة». وتدريجاً، صار لكل فريق معارض أرضه ومعركته، كما هي حال النظام أيضاً من خلال سيطرته على مناطق محددة.

لا تبدو خريطة سوريا اليوم مجزأة حسب مناطق نفوذ متعددة، بل صار لكل حرب وجه خاص وأهداف أخرى مختلفة عن الأخرى. حتى في تطلعات القائمين بها، يصبح لكل منطقة وسائلها الخاصة للسيطرة سياسياً وعسكرياً عليها، كما هي حال حرب الجنوب وحرب الشمال وحلب والشرق. وهكذا تقدم فيدرالية الحروب نفسها، على قاعدة أن لكل منطقة حربها وهويتها الخاصة. يضاف الى ذلك أنه أصبح لكل منطقة «راع» إقليمي أو دولي. فكما تلعب روسيا وإيران دور الراعيتين لنظام الرئيس بشار الأسد، وإن كانت روسيا اليوم في مفاوضات مع واشنطن حول مصيره، كذلك تؤدي تركيا ودول الخليج ومنها السعودية دور الراعي الرسمي إما لجماعات المعارضة أو لمناطق تحولت بفعل الحرب والتهجير والنزوح الى مناطق من لون واحد وأهداف وغايات واحدة، من دون أن ننسى دور إسرائيل ولا سيما في التحول الأخير ومحاولتها اعتبار الجولان أحد «كانتونات» هذه الحرب الدامية، وتعاملها معه على هذا الأساس.

لا يمكن التعامل مع توزع الكانتونات الحربية السورية إلا لجهة الخطورة التي تنتجها هذه التقسيمات وتتفرع منها، وما قد تلعبه في المرحلة المقبلة، في ظل السيناريوات المطروحة لحل الأزمة السورية. ففيدرالية الحروب تأخذ أهميتها في ضوء تعثر المفاوضات، واحتمال انهيار الهدنة الحالية والعودة مجدداً الى جولة عنف جديدة، قد تكون الأقسى وسط معلومات عن آفاق التدخل الغربي العسكري واحتمال دخول منظومات الصواريخ أرض جو الى فصائل معارضة والمخاوف من عدم القدرة على التحكم بها والخشية من التعرض لحركة الطيران العسكري والمدني. فأي جولة عنف جديدة، يمكن أن تقع في لحظة دولية حساسة، وخصوصاً في ظل الانشغال الأميركي بالانتخابات الرئاسية، وغرق دول أوروبا في أزمة اللاجئين السوريين وتنقل الإرهاب الأصولي، لن تكون هذه المرة جولة عابرة، بل ستكون مؤشراً على معركة طاحنة لكسر التوازن العسكري الحالي، بتدخل من الأطراف الإقليميين والدوليين المتورطين أساساً في المستنقع السوري.

أما العنصر الأكثر تأثيراً فيكمن في معرفة الاحتمالات الروسية من تطبيق الاتفاق مع الأميركيين حول مصير الأسد، وتجاذب موقفه بين الرغبة الغربية والتشدد الإيراني، علماً بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان واضحاً أخيراً حين اختصر أبرز أهداف التدخل الروسي الجوي في ضرب «الإرهابيين الآتين من روسيا الى سوريا»، ما يثير تكهنات حول احتمال أن ينأى بنفسه تدريجاً عن الواقع السوري طالما حقق ما يريده في «تصفية آلاف الإرهابيين؛ ومنهم منحدرون من روسيا»، وطالما أن إيران مستمرة في موقفها المغاير للموقف الروسي في تحديد مصير الأسد ومنحى المفاوضات والحرب.

ما يعني لبنان من هذه الصورة، هو أنه يصبح يوماً بعد آخر أكثر التصاقاً بالوضع السوري مع بقاء سيطرة الجيش السوري على المناطق المحاذية للبنان وبقاء النظام مع كل عثراته قائماً في انتظار تحديد مصيره، إما من خلال المفاوضات المتأرجحة، أو من خلال استمرار الاستنزاف السوري لتحديد وجهة الحرب وتقاسم النفوذ على الأرض السورية. وهذا يؤدي تلقائياً الى استبعاد أي تطور محلي داخلي، فلا قانون انتخاب ولا انتخابات نيابية أو رئاسية في المدى المنظور، والاستحقاقات الأساسية صارت مرتبطة حكماً بالاستحقاقات السورية ومصير الأسد. ما عدا ذلك، يغرق الوضع الداخلي أكثر فأكثر في مستنقع الخلافات الداخلية والاهتراء، في ظل تقاذف السياسيين الاتهامات في شأن الفساد ومتفرعاته، والتضييق الأميركي المالي والاقتصادي الذي أصبح واقعاً حقيقياً، والأمن الداخلي المتفلت من كل ضوابط. كل ذلك واللبنانيون غارقون في حمى الانتخابات البلدية والخلافات المحلية فتتوجه أنظارهم الى حيث يتعذر الوفاق، وخصوصاً في مدن تشكل ثقلاً لهذا الفريق أو ذاك.