يقول الاستاذ شارل جبّور في مقاله بعنوان «هل تشكّل الفدراليّة حلّاً للأزمة اللبنانيّة؟» المنشور في «الجمهوريّة»، الاثنين 14 حزيران 2021، إنّ الوقت غير مناسب لطرح الفدراليّة، لأنّ «حزب اللّه» يرفضها. الفدراليّة نظام سياسي يستدعي وجود دولة، فيما عقيدة «حزب الله» «لا تستطيع تقبُّل وجود دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة». تالياً، أمّا وأنّ الحزب هو ما هو عليه، يكون البحث عن طبيعة النظام السياسي الأفضل للبنان، «ملهاة كبرى ومضيعة للوقت»، بحسب جبّور.
نأمل أن يتسّع صدر الاستاذ جبّور للملاحظات الآتية:
ـ أوّلا، طرحت «الجبهة اللبنانيّة» الفدراليّة خلال الحرب كحلّ لأزمات بلادنا. كان لبنان محتلاّ لعقود من السوريّين والفلسطينيّين والاسرائيليّين، ومن نافلة القول، انّ الفدراليّة في حدّ ذاتها لم تكن حلّا للاحتلالات. مع ذلك، لم يفكّر أقطاب الجبهة آنذاك في أنّ الفدراليّة «ملهاة»، لأنّ انهيار النظام في لبنان سبق احتلاله. أمّا وأنّ الفدراليّة تصوّر أفضل لنظام حكم بلادنا من الصيغة المركزيّة، فهي بهذا المعنى حلّ لجذر المشكلة (أي عدم مواءمة النظام اللبناني على المستوى المؤسساتي لطبيعة تكوين بلادنا على المستوى المجتمعي)، لا لتبعاتها اللاحقة (انهيار الدولة؛ احتلالات خارجيّة مباشرة أو غير مباشرة). ببساطة وبوضوح شديد: في غياب معادلة حياد + فدراليّة، لا شيء ينتظر اللبنانيّين سوى دورات متجدّدة من العنف الاهلي، ولو سلّم «حزب اللّه» سلاحه للدولة اللبنانيّة.
ـ ثانياً، غير صحيح ما ذكره الاستاذ جبّور أنّ «المشكلة لم تكن يوماً في النظام السياسي، انّما كانت دوماً في غياب التوافق بين اللبنانيّين على دور لبنان وحصريّة السلاح ونهائيّة الكيان والحياد». على سبيل المثال، مشكلة الزعيم الراحل كمال جنبلاط مع زعماء الموارنة لم تكن حول نهائيّة الكيان، أو حصريّة السلاح، أو أي من الامور الاخرى التي ذكرها جبّور، بل في عدم قدرته على الوصول الى رئاسة الجمهوريّة. هذا العامل متعلّق بجوهر النظام اللبناني بطبيعة الحال. بهذا المعنى، عندما يكتب جبّور أنّ انجرار الفئة التي طالبت قبل الحرب بـ»الاصلاحات» الى الحرب، لم يكن بسبب عدم اقرار هذه الاصلاحات، بل بسبب «الانجراف وراء القضيّة الفلسطينيّة»، ينسى أنّ زعيماً كبيراً ككمال جنبلاط ما كان تحالف مع الفلسطينيّين أصلاً لولا اعتراضه على النظام. بعد الحرب، صوّر ميشال عون لقاعدته السنّة كعدوّ، بحجّة أنّ «اتّفاق الطائف» سلب صلاحيّات رئاسة الجمهوريّة وأحالها الى رئاسة الحكومة. هذا الامر متعلّق بدوره بجوهر النظام اللبناني وآليّات عمله. هذه مجرّد أمثلة، ويمكن إعطاء أمثلة كثيرة غيرها مشابهة. تالياً، يخطئ جبّور تماماً عندما يحيّد النظام السياسي اللبناني عن المآسي التي تعاقبت على وطننا منذ عقود.
ـ ثالثاً، يكتب الاستاذ جبّور أنّ مدخل الحلّ في لبنان «يكون عن طريق فرض ميزان قوى خارجي أو داخلي، يفتح الباب لتسوية متوازنة، وكلّ ما هو خلاف ذلك مضيعة للوقت». لا خلاف هنا أنّ السياسة تضبطها لعبة موازين قوى، ولا أنّ هذه الموازين مختلّة حاليّا لمصلحة «حزب اللّه». ولكنّ موازين القوى متحرّكة، وينبغي علينا كلبنانيّين أن نملك مشروعاً وتصوّراً لو تغيّرت لمصلحتنا. مطلع القرن الماضي، أمات العثمانيّون أجدادنا جوعاً في الحرب الكبرى. ولكن موازين القوى تغيّرت دراماتيكيّاً بعد هزيمة السلطنة وانتصار فرنسا. ماذا فعلنا بالفرصة التاريخيّة آنذاك؟ 1ـ أنشأنا لبنان الكبير. 2ـ لم نبن دولة حياديّة. 3ـ صنعنا نظاماً سياسيّاً مركزيّاً لحكم مجتمع تعدّدي بامتياز. هل تبدو هذه الخيارات حكيمة اليوم؟ إن كان الجواب أن لا، فينبغي الانتباه الى أنّ التفريط بالفرصة التاريخيّة آنذاك كان ناتجاً من مصيبة مشابهة للمصيبة الحاليّة: غياب المشروع طويل الأمد، وممارسة السياسة كردّ فعل على الحدث، لا التخطيط الصبور لصنعه.
ـ رابعاً، هل هناك من بديل واحد جدّي للفدراليّة؟ لو يقدّمه لنا الاستاذ جبّور، نتلقّفه. وإن لم يفعل ـ ولن يفعل ـ فليسمح لنا بمتابعة حشد تأييد أكبر عدد ممكن من اللبنانيّين لمعادلة حياد + فدراليّة. ليست المسألة مسألة عناد من أجل العناد. المسألة الحقيقيّة أن لا حلّ طويل الأمد لبلادنا من خارج هذه المعادلة. تكراراً، الامور بهذه البساطة، وبهذا الوضوح.