Site icon IMLebanon

لماذا يطالب موارنة في لبنان بالفدرالية؟ (2/2)

 

 

آفاق نجاحها وفشلها في ضوء الثقافة المجتمعيّة والسياسيّة للبنانيّين

 

 

ومن أسباب جنوح موارنة إلى الفدرلة، تداعيات الثورة السورية واللجوء السوري إلى لبنان، وتوريط «حزب الله» لبنان في الصراع هناك، فضلاً عن فشل «إعلان بعبدا» في حزيران 2012 في وضع حد لتدخل الحزب هناك (كلام محمد رعد: بلّوه وشربوا ميتو)، وبالتالي الإساءة إلى العلاقات بين لبنان والعالمين العربي والخارجي. إن وجود قرابة مليوني سوري في البلاد يشكّل قنبلة ديموغرافية يجري تأجيجها على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل أجهزة استخباراتية لإحداث فتنة في البلاد. فضلاً عن ذلك، تداعيات اللجوء السوري على الدولة اللبنانية، سياسة ومجتمعاً ومالية. في العام 1976 احتل النظام السوري لبنان بـ 30 ألف جندي، واليوم لم يعد بحاجة إلى إرسال جيش لاحتلاله، بعدما أصبح شعبه في داخل لبنان: «شعب واحد في دولة واحدة».

وتنتاب اللبنانيين، وبخاصة المسيحيين منهم، هواجس من الأوضاع الإقليمية: من قيام تحالفٍ للسُنّة في سورية ولبنان، فيما لو تغيّر نظام الأسد (تصريح البطريرك الراعي أواخر العام 2011)، أو تعويم العرب النظام السوري قبل أيام (إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية قبل أيام قليلة)، وانعكاساته القادمة على لبنان، وكذلك التوافق السعودي-الإيراني وتداعياته على البلاد، وما يحصل في فلسطين من مشروع إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية، وتأثيره في لبنان، إن جرى تهجير الفلسطينيين.

ويعيش المسيحيون اليوم تحت هاجس استحواذ الرأسمال الشيعي على أراضي مهاجرين منهم لربط المناطق الشيعية، جنوباً ووسطاً وبقاعاً، وعن تمويل «حزب الله» قسمٍ من ميزانيته بطرق غير مشروعة، وثقافة الخروج على القانون ومد اليد إلى المال العام (42% لا يدفعون فواتير الكهرباء أو هدر في الطاقة).

ومنذ «الانتفاضة اللبنانية»، ازداد قلق الموارنة واللبنانيين، عندما بدأت تتكشف ملفات المنظومة الحاكمة كلها بمحاصصة الفساد وتحالفها مع مافيا المال ونهب المال العام وتهريبه إلى الخارج والاستيلاء على ودائع اللبنانيين، وبالتالي التسبب في انهيار الاقتصاد والمالية والنقد والمجتمع والخدمات، فيما شلّت الدولة تماماً، وساد خرق الدستور والقوانين وتسييب الحدود وإذلال المواطنين. وقد اتهمت قوى سياسية وشعبية «حزب الله» بأنه ترك الطبقة الحاكمة الفاسدة تثري نفسها لقاء سكوتها عن سلاحه.

صحيح أن «الانتفاضة اللبنانية» عززت الآمال لدى الكثير من اللبنانيين بحصول التغيير المنشود، إلّا أن قمعها على يد «الثنائي الشيعي»، ومن ضمنهم الشيعة المنتفضين في الجنوب والبقاع، أفاد كل منظومة الفساد الحاكمة، لمنع قيام دولة قوية ذات سيادة تمسك بشعبها وأرضها وحدودها وتعمل لشعبها، وبالتالي تشكّل تهديداً لمواقعها ومصالحها ومكتسباتها. وكان نجاح الانتفاضة سيقطع الطريق على الحزب للتواصل مع إيران عبر سورية. هذه الأمور مجتمعة تسببت في إحباط شديد لدى المسيحيين، بالتزامن مع وصول الانتفاضة إلى طريق مسدود بانتشار فيروس كورونا.

إن إجراء الانتخابات النيابية في العامين 2018 و2022، على أساس قانون انتخاب استنسابي وتحالفات عجيبة بين قوى متناقضة، أطاح بتوقعات الكثير من اللبنانيين، بأن يتم التغيير بالوسائل الديمقراطية عبر صندوقة الاقتراع. وهذا جعل المنظومة الحاكمة تعيد إنتاج نفسها وتستمر في الحكم بسلوكياتها وممارساتها المعروفة السابقة. كان هذا كافياً للقضاء على آمال المسيحيين في الانتقال إلى غد أفضل. وقد عملت المنظومة الفاسدة والمفسدة الحاكمة على تمييع مطالب المجتمع الدولي و«صندوق النقد الدولي» للقيام بإصلاحات حقيقية، خصوصاً بعد تفجير المرفأ في آب 2020 وتعطيل التحقيق العدلي (تهديد وفيق صفا مسؤول وحدة التنسيق والارتباط في حزب الله في أيلول 2021 بـ «قلع» المحقق العدلي طارق البيطار في جريمة المرفأ). إن ما حصل في عين الرمانة في 14 تشرين الأول 2021، وعودة حوادث الاغتيالات المشبوهة، والهجرة الدافقة نحو الخارج، وتحوّل الدولة اللبنانية إلى فاشلة وإفقار شعبها.. تسببت كلها في قلق يومي عامر لدى الموارنة واللبنانيين.

لقد اعتبر موارنة أن تعطيل استحقاقين رئاسيين على يد «الثنائي الشيعي» و«التيار الوطني الحرّ» بين العامين 2007 و2016، ومرة ثالثة على يد الثنائي منذ الفراغ الرئاسي في خريف العام 2022، هو استهداف لهم. ولا ننسى في هذه العجالة، تعطيل تشكيل الحكومات اللبنانية، فيما بقي صوتا البطريرك الراعي ومطران الروم الأرثوذكس إلياس عودة غير مسموعين، في موضوع الشغورٍ المسيحي في المؤسسات القضائية والمالية والعسكرية والدبلوماسية، واعتباره تهديداً لهوية المسيحيين (تصريحات البطريرك الراعي منذ تعطيل الاستحقاق الرئاسي).

إن ملف المفاوضات المتعلق بالنفط والغاز التي أداره حزب الله، متلطياً وراء الدولة اللبنانية، وبالتالي التخلي عن الخط 29 الذي رسمه الجيش اللبناني لأسباب ربما تتعلق بصراعات المنطقة، تسبب في صدمة لمعظم المسيحيين والمسلمين.

بناء على المعطيات التي ذكرت، أصبح لدى الموارنة منذ تفجير مرفأ بيروت مشروعان يتداولون فيهما في السر والعلن: مشروع بكركي التي بدأ صوتها يعلو، كلاماً لا فعلاً، بانتقاد الطبقة السياسية الفاسدة، والمطالبة بإعلان حياد لبنان وعرض أوضاعه على مؤتمر دولي، من دون أن يحظى بموافقة القوى السياسية الرئيسية، وبخاصة «الثنائي الشيعي» «الحاكم والفاصل» في الأمور اللبنانية. والمشروع الثاني الفدرالية، والدعوة إليها جهارة والتهديد بالتقسيم إذا تعذر ذلك.

3- هل الفدرالية حل لأزمات لبنان، ومدى آفاق نجاحها وفشلها؟

نشير بداية إلى أن دولاً كثيرة نجحت في اعتماد الفدرالية، لأن مساحاتها الجغرافية الواسعة وتموضع السكان سمحت بتوزيع السلطات بين المركزي والمحلي، فضلا عن أن معظمها لديه قسط من الثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان. أما لبنان الطائفي الموحّد، فسينتقل إلى الفدرالية بهشاشة وتداخل بين طوائفه على رقعة جغرافية صغيرة، وسيحمل أبناؤه معهم إليه أحقاداً تاريخية طائفية ومذهبية وتبعيات للخارج، كذلك خلافات على السياستين الدفاعية والخارجية، وسلاحاً يختلف عليه اللبنانيون ويرفضه المسيحيون في العلن. وكل هذا يعزز الشكوك والهواجس مستقبلاً ويعيق أي نجاح.

إن توقع فشل الفدرالية ومخاطرها على التعايش يعود إلى صغر رقعة لبنان وضعف ثرواته الطبيعية، وتضارب الجغرافيا مع الثقافات في الأقاليم، وبقاء الطائفية المجتمعية تمنع التعايش والتلاقي، فضلاً عن وجود ثقافة الاستقواء على الآخر. وقد تؤدي كل هذه العوامل إلى صراعاتٍ وتطهيرٍ على أساس الدين، خاصةً أن تغيّر الديمغرافيا مستقبلاً، بفعل التكاثر السكاني للأقليات، وغياب الديمقراطية والاعتراف بالآخر وبحقوقه، سوف يفسد التعايش عبر مطالبة الأقليات بحقوق إضافية بفعل نمو أعدادها والضنّ بها من قبل الأكثرية في الإقليم الفدرالي (مثال جبيل، حيث يشكّل الشيعة حالياً نسبة 12% من السكان والسُنّة نسبة 2%).

وفي الدولة الفدرالية يتشكل المجلس الرئاسي المركزي من رؤساء الأقاليم المنتخبين، ما يضع علامات استفهامٍ كبيرة حول تحولهم بين لحظة وأخرى، من طائفيين إلى وطنيين وعلمانيين يعيشون ثقافة التعايش الفدرالي. والسؤال الملحّ: كيف سيتمكن الجيش الفدرالي المكوّن من أبناء الطوائف/الأقاليم من حسم الأمور إذا حدثت خلافات بين مكونات الفدرالية؟ في العام 1962، أرسل الرئيس الأميركي جون كنيدي «الحرس الوطني» (National Guard) إلى «جامعة ميسيسبّي» للبيض لقبول طالب ملوّن فيها رفضت إدارتها تسجيله. فهل يتمكن لبنان الفدرالي من استخدام الجيش عند الاقتضاء لتنفيذ قرار للحكومة المركزية؟ وقد لا تكون هناك ضمانات بوقوف الأقاليم الفدرالية إلى جانب بعضها البعض، في حال تعرّض أحد منها لخطر خارجي.

ومن المعروف في الدول الفدرالية أن السياستين الدفاعية والخارجية من صلاحيات الحكومة المركزية، وهما موقعا الخلاف في لبنان الموحد. فكيف ستتوافق مكونات الفدرالية على السياسة الدفاعية في ظل وجود إقليم مسلح، خصوصاً إن كان هذا السلاح لا يخدم مصالح اللبنانيين جميعاً؟ وإذا ما تسلّح كل إقليم ردّاً على ذلك، فما معنى بقاء لبنان فدرالياً عندئذ، فيما المطالبة بالفدرالية أساساً، هو لحصر السلاح بالجيش الشرعي. وهل سيختلف موقف الحكومة الفدرالية عندها عن مواقف حكومات «لبنان السابق» بالإذعان لتعددية السلاح؟ وعن السياسة الخارجية، فهل ستقطع الطوائف علاقاتها بالخارج الذي تتلقى الدعم منه؟ وفي لبنان الموحد لا يحترم الدستور، وقد خرق مراراً منذ الطائف، إن قرارات المحكمة الدستورية في الدول الفدرالية نافذة. فهل ستكون كذلك بالفعل في لبنان الفدرالي، أم تتعرض للخرق والاستنسابية؟

إن نظام التملك والتنقل والإقامة والعمل في الفدراليات هو حق دستوري لكل مواطن. فهل سيقبل بذلك المسيحيون الخائفون في لبنان الموحّد من التملك وعمل الأجانب وإقامتهم في مناطقهم في لبنان الفدرالي؟ وهل ستكون بيروت الكبرى فدراليةً سُنيّة-أرثوذكسية-شيعية-درزية، بناء على ديمغرافيتها الغالبة فيها، أم ستكون عاصمة مركزية لكل الطوائف؟ وكيف سيتعاطى «حزب الله» مع مرفئها ومطارها وهما خارج نطاق سيطرته؟

وماذا عن توزيع الثروات بعد استخراج النفط والغاز»؟ وما هو نصيب كل من الدولة والإقليم فيهما؟ إذا كانت استفادة اللبنانيين جميعاً من المادتين الاستراتيجيتين بالشكل الذي أدير فيه ملف التفاوض مع إسرائيل، فالسلام على الفدرالية، وعلى النفط والغاز. في الدول الفدرالية يجري الاتفاق دستورياً على نصيب الدولة والإقليم من الثروات. إن نصيب الدولة مهم لتنمية الأقاليم غير الثرية، وما حصل من خلافات على النفط في العراق بين حكومة بغداد وإقليم كردستان، قد يكون مؤشراً على النزاع القادم بين الحكومة المركزية والإقليم.

وكيف ستتأسس فدرالية وطوائف البلاد مبعثرةً على مساحة لبنان؟ وما هي الضمانات لحقوق كل طائفة في التواصل مع باقي مكوناتها المشرذمة؟ هل تحل المسألة عبر تبادل السكان، أو فتح «كوريدورات» بين المناطق، وأي ثقة وثقافة ستتوافران عندئذ لاحترام المواثيق والعهود والقوانين.

إن أهم مسوغٍ للفدرالية لدى الموارنة، هو تخلي حزب الله عن سلاحه. ومن المستبعد أن يقدم على ذلك. فقرار ذلك في يد الولي الفقيه؟ لقد قال المونسنيور كميل مبارك في مقابل مع برنامج «صار الوقت»، أن «حزب الله» سيتخلى عن سلاحه في الدولة الفدرالية لعدم حاجته إليه، متناسياً أن الولي الفقيه يقرر في ذلك. ولا يشير مشروع «المؤتمر الدائم للفدرالية» بتاتا إلى سلاح الحزب، ولا إلى السياسة الدفاعية، بل إلى حياد لبنان بشكل نظري. فكيف ستحل مسألة السلاح، وكيف سيتم فرض الحياد على الأقاليم، وقد فشل في ذلك لبنان الموحد؟

وفي حال قيام فدرالية، من دون ثقافة العيش في فدراليات أو التربية عليها أو تغيير في العقليات الجامدة المنغلقة، فقد تقوم حرب بين الطوائف لتحسين شروط كانتوناتها، بشراً وأرضاً ومنافذ. وفي ضوء ثقافة اللبنانيين القائمة على الأنانيات والمصالح الشخصية والخاصة، فقد نشهد صراعات على الحدود والأراضي والسكان والموارد والثروات المرتقبة.

أخيراً، هل ستكون هناك مصلحة لدى العرب والدول الكبرى في قيام فيدرالية جديدة من أقاليم طوائفية على مساحة جغرافية من عشرة آلاف كيلومتر مربعاً ستكون عامل اضطراب في المنطقة؟ وهل ستنضج الظروف في لبنان لقيام فدرالية، تزامناً مع تسويات إقليمية وقرع طبول الحرب في المنطقة؟ عندما أتى المبعوث الأميركي الخاص دين براون إلى لبنان في نيسان 1976، رفض مطالب كميل شمعون بتقديم أميركا دعمها لمشروع إقامة فدرالية، وقال له: إن العالم يسير نحو التكامل وأنتم تسيرون نحو التجزئة والفرقة». فهل تغيّر أميركا رأيها اليوم وتدعم قيام فدرالية لبنانية قد تكون عامل اضطراب في المنقطة، وما هو موقف إسرائيل من ذلك؟

هل الحل إذا في العودة إلى «الميثاق الوطني» وإلى والديمقراطية التوافقية»، أم في قيام الدولة المدنية؟ في الخيار الأول لم يؤدّ الميثاق والديمقراطية التوافقية» إلى صهر المجتمع اللبناني، أو على الأقل قيام تعددية سلمية غير صدامية، ولا إلى نقل لبنان إلى مرحلة متقدمة من الاندماج المجتمع، ذلك أن النظام الطائفي القائم على النسبية والمحاصصة أفسد العلاقات المجتمعية والسياسية، وكانت الديموغرافيا محرضة لتسابق طوائفي على المراكز والمناصب، ولا تقل عنها علاقات الطوائف مع الخارج.

صحيح أن هناك صعوبة في إسقاط الدولة المدنية على مجتمع طائفي قبل تربيته على المواطنية والديمقراطية والاعتراف بـ «الآخر» والعيش معه، لكن الدولة المدنية تساوي بين مكونات مجتمعها ولا تتعاطى مع شعبها على أساس الدين، بل كمواطنين، ولا تتدخل في عقائدهم. أليس من الأفضل الاعداد لذلك بنزع ما علق في عقول اللبنانيين من مؤججات وإثارات طائفية بالتربية المجتمعية والتساوي فيما بينهم، واختبار تلك التجربة، كما فعلت تركيا وتونس اللتان فصلتا الدين عن الأحوال الشخصية، بدلاً من الذهاب إلى الفدراليةٍ أو إلى نظام آخر؟ وإذا فشلت الدولة المدنية، عندها يمكن البحث عن حل آخر، قد لا يكون متوافراً. أما إذا فشلت الدولة الفدرالية، فلن تكون هناك إمكانية من جديد لتجميع المجزأ… فيحصل التقسيم؟

 

* أكاديمي وباحث في الشأن اللبناني