التركيبة المركزية للنظام في لبنان تتطلّب التوافق السياسي بين الطوائف كشرط ملزم للاستقرار، ولكن هذا التوافق ما زال مفقوداً منذ خمسة عقود، وآخر فصوله منذ خروج الجيش السوري عام 2005.
تمكّن «حزب الله» من خلق أمر واقع عسكري من خارج النظام، وتمكّن أيضاً من ان يستأثر بالحصة الشيعية من داخل النظام، خصوصا في ظل التوافق الاستراتيجي بينه وبين حركة «أمل»، ويشترط على الطوائف الأخرى التسليم بسلاحه خارج النظام، والتسليم أيضا بشروطه لدور النظام كواجهة لدوره العسكري والسياسي، ورفض الطوائف الأخرى للأمر الواقع المزدوج أدخلَ البلد في أزمة مركزية وأزمات مستمرة.
ومع إدراك «حزب الله» صعوبة تعديل النظام لقوننة سلاحه وقوننة حقه في «الفيتو»، اعتمد سياسة تجاهل الاعتراض على السلاح الذي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، بالنسبة إليه، طالما ان سلاحه موجود ونَزعه غير ممكن وقرار استخدامه في يده، ولجأ إلى سياسة التعطيل بدلاً من «الفيتو» الذي لم يتمكّن من قَوننته بعد، وذلك تحقيقاً لأغراضه في أن يَتبوّأ مَن يتكاملون ولا يتعارضون معه داخل تركيبة النظام، وهذا ما جعل النزاع السياسي يتركّز على وضع الحزب يده على مؤسسات الدولة في اعتبار انّ سلاحه تحول أمرا واقعا غير قابل للنزع، وهدفه تحويل وضع يده على دور الدولة أمرا واقعا آخر، وبالتالي تختصر المواجهة منذ عقدين تقريباً بين الاعتراض المستمر على السلاح، وبين المواجهة الفعلية على السلطة التنفيذية بدءاً من رئاسة الجمهورية مروراً برئاسة الحكومة وصولاً إلى الحكومة، وما بينهما الأكثرية داخل مجلس النواب.
ولم يتمكّن «حزب الله» بعد عقدين من المواجهة من وضع يده على النظام، ولن يتمكّن خصومه من وضع أيديهم على النظام، وهذا ما يدركونه بفِعل سلاحه والأهَمّ سيطرته على الحصة الشيعية. أمّا رهان الحزب، ربما، على عامل الوقت لتيئيس خصومه او استسلامهم او تحوّله إلى الأكثرية الساحقة التي تُمَكّنه من حسم المواجهة، فهذا الرهان لن يتحقّق، لأنّ ما عجز عن تحقيقه في عشرين عاماً سيعجز عن تحقيقه بعد عشرات السنوات بسبب توازنات البلد الطائفية، ولا بل وضعه السياسي اليوم داخل الطوائف الأخرى أضعَف مما كان عليه منذ عشر سنوات مثلاً.
وما استحالَ حلّه ومعالجته في العقدين الأخيرين لجهة إبرام تسوية تاريخية تُعيد الدور للدولة وترسِّخ الاستقرار، ستستحيل معالجته في العقود المقبلة سوى في حال تبدُّل ميزان القوى الخارجي المتعلِّق بمشروع «حزب الله»، والمقصود الدور الإيراني التوسّعي، فهل من مؤشرات في هذا الاتجاه او ذاك؟
يعتبر «حزب الله» انّ محوره في حالة صعود جيو استراتيجي بسبب صموده في مواجهة إسرائيل التي تراجعت مكانتها بعد «طوفان الأقصى» وتضرّرت صورتها أمام شعبها الذي تراجعت ثقته بقدرة قيادته السياسية والعسكرية على حماية وجوده، وبسبب الانكفاء الأميركي والاتفاق مع السعودية. ولكن لخصومه قراءة مختلفة ومفادها ان «حماس» خسرت ورقة تأثيرها في غزة ولن تسمح تل أبيب بأن يكون لها أي دور عسكري أو سياسي في المستقبل، و»حزب الله» سيفقد ورقة الحدود، وأظهَرت حرب 7 تشرين محدودية التأثير الإيراني المباشر، والانتقال المحسوم لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض سيضع طهران في موقع حرج مع إدارة أميركية ترفض التساهل مع إيران، هذا عدا عن الاتفاق الثلاثي بين واشنطن والرياض وتل أبيب الذي في حال حصوله بعد الحرب والانتخابات الأميركية سيُفضي إلى تحوّل استراتيجي في المنطقة على حساب طهران، خصوصاً أن أحد أهداف حرب «طوفان الأقصى» قطع الطريق على التطبيع وهذا التحالف.
ولا يفترض أيضاً إسقاط عامل مهم، وهو انّ إيران تحوّلت دولة تهدِّد وجود إسرائيل، ومشكلة الأخيرة الفعلية لم تعد مع «حماس» ولا مع «حزب الله»، إنما مع طهران نفسها التي تُسلِّحهما وتموِّلهما وتقود بواسطتهما وغيرهما من التنظيمات مواجهاتها، وتل أبيب التي وضعت كل ثقلها الأمني والسياسي لمنع إيران من التحوّل دولة نووية خشية على وجودها، جاءتها الضربة الوجودية من الدور لا النووي الإيراني، وهذا ما سيجعل تركيزها مع الإدارة الأميركية الجديدة على النظام الإيراني تعطيلاً لدوره التوسعي وسلاحه النووي.
فقراءة «حزب الله» عن الصعود الجيو استراتيجي لمحوره هي قراءة عقائدية، فيما قراءة خصومه مرتكزة على وقائع سياسية أفرَزتها حرب «طوفان الأقصى»، والتبدُّل الحاسم في الإدارة الأميركية، والانزعاج الخليجي من الدور الإيراني، والتطويق المحتمل لطهران مع الاتفاق الثلاثي الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي، والتمَلمل الشعبي الإيراني من أداء الثورة والذي ظهر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إن بتدنّي نسبة الاقتراع التي حملت الرئيس الأسبق محمد خاتمي إلى وصف مقاطعة 60 في المئة بـ»غير المسبوقة» في تاريخ الجمهورية الإسلامية، وانها دليل على «الاستياء العام تجاه النظام الحاكم»، او بفوز المرشّح الإصلاحي مسعود بزشكيان، وهو رسالة شعبية ضد النظام الحاكم الذي كان من مصلحته في ظروف المنطقة والعالم إيصال مرشحه المتشدِّد سعيد جليلي، وبالتالي العوامل والعناصر الخارجية مُتبدّلة ومتحركة في الاتجاه المعاكس للمصلحة الإيرانية.
وعلى رغم انّ «حزب الله» يحتفظ بقوته السياسية من خلال سيطرته على الحصة الشيعية وتحالفاته التي تمنحه ورقة تعطيل ما لا يريده، إلا انّ قوته الأساسية مُتأتّية من الدور الإيراني، وفي حال فرضَ على طهران تغيير دورها سيضطر إلى تعديل دوره، وهذا ما سيدفعه إلى المطالبة بإدخال تعديلات على النظام يُقايض من خلالها الوهج الإيراني بتعديلات دستورية كَونه سيفقد ورقة السلاح التي حوّلها أمرا واقعا في اعتبار انّ هذه الورقة هي في نهاية المطاف ورقة إيرانية.
فالورقة التي يعتبرها منذ العام 2005 خارج البحث يمكن ان يتعطّل مفعولها في حال اضطرت إيران إلى تغيير دورها، فيفقد علّة وجوده ويضطر إلى تحويل معركته في الاتجاه السياسي، وسيرفض العودة إلى «اتفاق الطائف» الذي يؤكد الشيخ نعيم قاسم في استمرار انّ حزبه ملتزم بهذا الاتفاق، فيما التزامه الحالي مَبنيّ على تعطيله «الطائف»، إن من خلال احتفاظه بسلاحه او عن طريق تعطيل آلياته. وبالتالي فإنّ تأييده لهذا الاتفاق هو تأييد لفظي، فيما على المستوى العملي لا يُقيم أي اعتبار لدستور ودولة وغيرهما.
ولأنه لا وجود لحتميات ونهائيات في ظل وضع عالمي متحرِّك، فإنه من الصعوبة بمكان التوقُّع من اليوم ما إذا كان الدور الإيراني التوسّعي شارفَ على الانتهاء، أم ان هذا الدور سيواصل صعوده أو يحافظ على وضعيته، وفي الحالتين لبنان أمام إشكالية المسألة الشيعية التي تمنع قيام دولة فعلية. ولأنّ التغيير من الداخل مستحيل في ظل المعطيات الراهنة، فإنّ تبدُّل المعطيات الخارجية في الاتجاه المعاكس لمصلحة إيران سيؤدي إلى تحريك الوضع الداخلي للمرة الأولى منذ عشرين عاما في اتجاه تسوية جدية.
واختصاراً للصورة، فإن المنطقة أمام تحولات استراتيجية، بدءا من الانتخابات الأميركية، مرورا بالاستراتيجية الإسرائيلية لمرحلة ما بعد «طوفان الأقصى» وهي مختلفة تماماً عن مرحلة ما قبلها، وصولا إلى الاتفاق الثلاثي بين واشنطن والرياض وتل أبيب. أما الوضع غير المستقر في لبنان فهو مرشّح للاستمرار في حال حافظت إيران على دورها التوسعي، وأما في حال سقوط نظامها او اضطرارها إلى إعادة النظر بدورها، فسيكون «حزب الله» أمام خيارين:
ـ الخيار الأول: التسليم بالتوازنات التي أرساها «اتفاق الطائف»، اي ان يلتزم الدستور كما هو ويمارس دوره تحت سقف الدولة. ومن الواضح ان هذا الأمر من سابع المستحيلات كونه يعتبر أنّ المشروع الشيعي الذي يمثّله لا يتناسب مع التعديلات التي أقرّها الطائف، لأنّ الشيعية السياسية لم تكن في أوج صعودها مع إبرام هذا الاتفاق، وبالتالي يريد تثبيت العناصر التي راكَمها مع تغييبه للدولة من أجل إدخالها في صلب الدستور، فإذا نجح كان به، وإذا فشل ينتقل إلى الخيار الثاني.
ـ الخيار الثاني: ينتقل «حزب الله» مُرغماً من مشروع السيطرة على لبنان كله، إلى مشروع السيطرة على بيئته ومناطقه محتفظاً بسلاحه الذي يكون قد تعطّل دوره الإقليمي ويتحوّل شرطة داخل مناطقه، ومحافظاً على تركيبته، والدعوة إلى المؤتمر التأسيسي التي سحبها من التداول سيُعيد وضعها على الطاولة بدفعٍ إيراني.
فالمسألة الشيعية التي تحوّلت مع الجمهورية الإسلامية إشكالية مولِّدة للأزمات في الشرق الأوسط ستكون في المرحلة المقبلة أمام منعطف تاريخي، وهذا لا يعني استبعاد احتمال استفادتها من أحداث أخرى تُبقي القديم على قدمه في المنطقة، إنما الاتجاه الغالب هو اضطرارها إلى إدخال تعديلات جوهرية على دورها، الأمر الذي سيدفعها إلى استنساخ الفدرالية العراقية في كل من اليمن وسوريا ولبنان، ولكن مع فارق ان لا قَوننة لسلاح الحزب ولا أدوار مميزة، ولا بل التجربة العراقية بعد تبديل إيران لدورها ستُعيد تصحيح وضعها، وهذا يعني انّ الفدرالية ستتحوّل مطلباً لـ»حزب الله»، وما قبل به في العراق سيقبل به في اليمن وسوريا ولبنان، وتطبيق الفدرالية مع تبدُّل الدور الإيراني يصبح ممكناً في السياسات الخارجية والدفاعية. وبالتالي، الفدرالية المرفوضة لدى الحزب اليوم، والتي هي مُشيطنة منه، ستتحول مطلبه الأول. وهذا ما يستدعي للمرة الأولى التقاطع معه سعياً إلى إرساء نظام اتحادي سيشكل الحلّ الوحيد لأزمات لبنان وسوريا والعراق واليمن…