يعيش لبنان اليوم في مرحلة دقيقة جدًا، أثبتت أنَّ الأزمة تشتد ليس لتنفرج، بل لتنفجر في النظام اللبناني بحسب الكثير من الأطراف اللبنانية، التي باتت تتحدث في السرّ كما في العلن عن شكل النظام اللبناني ومستقبله، في ظلّ إعتراف الجميع بوجود مشكلة ما في «إتفاق الطائف» أدّت إلى جزء من الأزمة التي نعيشها.
بداية، وفي ما خصّ «إتفاق الطائف»، المشكلة ليست فيه بل في عدم تطبيقه، لا في الجوهر ولا في المضمون.
لكي لا أغوص في تفاصيل ما تمّ تطبيقه وما لم يتمّ في «إتفاق الطائف»، سأتناول خطورة ما جرى ويجري في لبنان اليوم وأبعاده، في الشق الأول من هذه القراءة، حيث سأتحدث عن خطورة طرح النظام الفدرالي التام على الداخل اللبناني. وفي الشق الثاني سأتناول الحلول العلمية للأزمة اللبنانية بدل الحلول التقسيمية الطائفية.
في الرسم التوضيحي الأول، الذي قمت بإعداده شخصيًا ضمن المؤسسة الوطنية للدراسات والإحصاء، نستعرض شكل توزّع الطوائف على لوائح الشطب في مختلف الأقضية في لبنان.
وكما تُظهر الخريطة نسبة عدد الناخبين المسجّلين على لوائح الشطب للعام 2015 من كل طائفة في كل قضاء، بحيث تمّ تحديد لون لكل مذهب. يوجد ثلاثة أشكال تشرح تفاوت كل نسبة، بحيث تُشير الدائرة الكبرى الى وجود نسبة تتخطّى الـ25% من إجمالي الناخبين من تلك الطائفة في هذا القضاء، والدائرة الصغرى تُشير الى وجود نسبة تتراوح بين الـ10 و الـ25% من إجمالي الناخبين من تلك الطائفة في هذا القضاء، والخط الرفيع يُشير الى وجود نسبة تتراوح بين الـ1 و الـ10% من إجمالي الناخبين من تلك الطائفة في هذا القضاء.
أولاً، وقبل التطرّق الى نتيجة الدراسة والتي تهدف إلى تثبيت التداخل في التعايش الإسلامي ـ المسيحي، والذي يشكّل جوهر لبنان، تأتي هذه الخريطة لتثبت للجميع أننا نعترف بوجود تنوع اسلامي ـ مسيحي على مساحة الوطن، ولكن في الوقت نفسه لا بدّ التنبّه الى وجود تعايش اسلامي ـ مسيحي متجذّر في هذا الوطن وتظهره الدراسة على الشكل الآتي:
1- نسبة الناخبين المسيحيين المسجّلين في أقضية ذات طابع مسلم تتراوح بين 43 و50% من إجمالي الناخبين المسيحيين.
2- تتراوح نسبة الناخبين المسلمين في الأقضية ذات الطابع المسيحي بين 15 و23%.
3- نسبة التعايش الإسلامي- المسيحي في مختلف الأقضية تتراوح بين 25 و35% على مساحة الوطن.
هذه الأرقام تثبت أنَّ تناول طرح الفدرالية قد يكون منطقياً لم يُناد به، نظرًا لوجود طوائف في لبنان، وهو ينادي بها من منطق التقسيمة الطائفية، ولكن في الوقت نفسه، وكما تُظهر الأرقام التي نطرحها أعلاه، فإنَّ الفدرالية تعني خسارة بين 43 إلى 50% من المسيحيين لأصواتهم مقابل خسارة 15 إلى 23% من المسلمين لأصواتهم، أو الحل البديل عبر طرح تقسيمة جغرافية ضيّقة جدًا، في إطار تقسيم مذهبي، من أجل خفض هذه النسبة أو تشكيل تقسيمات داخل التقسيمات، لنقسم من خلاله المُقسّم إلى أقسام أو عملية نقل نفوس وتهجير قسري وعدم الإعتراف بالجذور لبعض العائلات المسلمة أو المسيحية، وهذا أمر لا يمكن أن نقبله من جهة، كما يستحيل تطبيقه في لبنان من جهة أخرى. لذلك، وبعد كل هذا الحديث عن خطورة الفدرالية على لبنان عموماً، وعلى التعايش الإسلامي – المسيحي خصوصاً، نأتي إلى الشق الثاني والمتمثل بتقديم الحل البديل.
بدايةً، الحل متشعب ومتعدّد، ولكن عنوانه العريض واضح جدًا، وهو في تطبيق جوهر «إتفاق الطائف»، عبر رفده بمخططات تنفيذية حقيقية، يجب أن نستفيد فيها من أصل المشكلة التي سببّت لنا كل هذا الأذى على مدى نحو 30 عاماً. وأهم الحلول التي يجب أن نستند إليها هي:
1- إنَّ جوهر «إتفاق الطائف» ينصّ على إنشاء دولة لبنان المدنية مع إحترام الخصوصية في الأحوال الشخصية لمختلف الطوائف اللبنانية.
2- تطبيق خطة لامركزية شاملة للشق الإنمائي والإنتخابي على أساس مدني على مستوى الأقضية، من خلال إنتخاب مجالس محلية مدنية على أساس نسبي، تقوم بإدارة شؤون الدائرة الجغرافية، من خلال صلاحياتها الموسعة وقدراتها المالية المباشرة وغير المباشرة، وهذا ما طرحته في كتابي: «اللامركزية، الطريق إلى الإنماء والإستقرار»، من خلال شرح طريقة تطبيق اللامركزية في لبنان وعدم التأثر بأي نموذج خارجي.
3- إخراج المذهبية من كل ما يخدم لبنان خصوصاً على مستوى الإدارات العامة، حيث يجب إعتماد الكفاية بغض النظر عن الدين.
4- تقليص دور الإدارة المركزية (الحكومة والوزارات) وإعطاء الصلاحيات المالية والتنفيذية على مستوى الإنماء للإدارات المحلية المنتخبة، والتي أقترح أن تكون على مستوى الأقضية، مع إدخال بعض التعديلات الجغرافية التي شوّهت الأقضية سابقًا لأسباب طائفية.
5- تفعيل الدور الإجتماعي للبلديات وإعطاء الصلاحيات الإنمائية والتطويرية للأقضية من خلال تحديد صلاحيات كل فريق.
6- عدم التطرّق الى الشق السياسي، أي اللامركزية السياسية التي تعني في التعريف السياسي «الفدرالية التامة»، والتي تسمح للأقضية أو المحافظات بتشكيل دساتير خاصة لا يمكن أن يحملها شكل لبنان أو مضمونه.
إنَّ ما نطرحه أعلاه يأتي لنا بالكهرباء ويحلّ مشكلة النفايات ويعزز المواطنة والمشاركة على مختلف المستويات، ويؤمّن فرص عمل، ويعزز دور المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية، من خلال السياسة التربوية اللامركزية ضمن الأسس والضوابط المركزية، وكل ما يحتاجه المواطن لحياته اليومية.
إذا ما نزلت اليوم إلى الشارع لتسأل الناس عن مشكلاتهم ستجدهم يعانون من غياب الخدمات ويريدون دولة لا طوائف. سيقولون إننا نريد كهرباء ومياهاً نظيفة وبيئة غير ملوثة وحلولاً عصرية، لأنّه عندما يجوع الإنسان لن يأكل كتابه المقدّس، سيسألك عن تلك الخدمة التي لم توفرها له.
لذلك، إنَّ ما نريده من أي طرح في لبنان هو أي شق يتعلّق بالإنماء الجغرافي داخل الوطن لا حسب الطائفة، وحفظ خصوصية الطوائف والتي صانها قانون الأحوال الشخصية منذ نشأة لبنان.