بعد بعث أطروحة الفدرالية التقسيمية في لبنان، يبدو أن هناك مسعى للترويج لها دولياً. خطوة مهمة في هذا الاتجاه برزت في مقالة جوزيف كشيشيان، الخبير الأميركي المعروف في شؤون الشرق الأوسط، والمولود في بيروت عام 1954، والزميل الأقدم حالياً في مركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الاسلامية في الرياض، التي نشرها في دورية «فورين بوليسي» التي توصف بـ«الرصينة»، بعنوان «التقسيم هو الحل الوحيد لويلات لبنان». لجوء الجناح الفاشي في اليمين اللبناني الى معزوفة الفدرالية، التي تنعش لديه ذكريات «عصره الذهبي»، عندما كان يسيطر على كانتونه «النقي»، بعد عمليات التطهير الطائفي والاجتماعي التي قام بها خلال الحرب الأهلية، ليس بالأمر المستغرب أو الجديد. الجديد، والذي لا سابق له في العقود الماضية، هو الدعوة إلى تقسيم لبنان من منبر كـ«فورين بوليسي»، إحدى أبرز الدوريات الأميركية المتخصصة في السياسة الخارجية، ومن قبل خبير عمل في مراكز دراسات مؤثرة في الولايات المتحدة، “راند كوربوريشن” مثلاً، ويحتل اليوم موقعاً مرموقاً في مركز دراسات سعودي شبه رسمي. قد يرى البعض، ببراءة من يعتقد أن حرية رأي كاملة تسود مثل هذه المنابر حيال أي موضوع مهما كانت حساسيته، والدعوة إلى تقسيم دولة ذات سيادة هي مسألة حساسة من حيث المبدأ، أن هذا المقال لا يعبّر سوى عن اقتناعات كاتبه. غير أن من يأخذ بعين الاعتبار موقع الكاتب في المركز السعودي، وما يترتب عليه من ضوابط والتزامات بالنسبة اليه من جهة، وسياسة النشر المعتمدة من قبل الدوريات الأميركية الكبرى وخضوع أي مقال يتناول قضية حساسة لنقاش جدي قبل قبوله، يدرك أن البراءة لا تسمح بفهم حقيقة ما نشهده. بكلام أوضح، فإن القيمين الرسميين على مركز الملك فيصل، غير المعروف بكونه واحة لحرية التعبير، على الأقل “لم يعترضوا” على مقال يقطع مع سياسة المملكة السابقة تجاه لبنان، وأن جهات نافذة في الدورية الأميركية موافقة على مضمونه. ما يطرحه كشيشيان حول لبنان يذكّر بسيل الكتابات، “الأكاديمية” والسياسية، التي سبقت الغزو الأميركي للعراق، والتي ركزت جميعها على أن هذا البلد مجرد “اختراع” بريطاني، أي كيان مصطنع بكل ما للكلمة من معنى، وأن المطلوب هو تفكيك دولته المركزية وإعادة بناء نظامه السياسي على قاعدة فدرالية تسمح بتمثيل فعلي لـ“مكوناته” الطائفية والعرقية كافة.
الشرخ الطائفي الغائر الذي نجم عن ترجمة هذه السياسة على ارض الواقع بعد احتلال العراق، وتمت مأسسته مع النظام الفدرالي الفذ الذي فرض عليه بموافقة عدد من قواه السياسية، أدى إلى دخوله في دوامة الحروب الأهلية الدورية.
التشجيع على الخيار التقسيمي بحجة نشر الديمقراطية من قبل الولايات المتحدة لا يقتصر على بلدان عربية واسلامية، بل يتعداها ليشمل أي دولة تناهض هيمنتها. عندما يقول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إن دولته لم تعد تعترف بالحزب الشيوعي الصيني ونظامه، وإنها تريد التعامل مع الشعب الصيني مباشرة وقواه المعارضة، فإن الذي يكشف المنطق الضمني لخطابه هو منشق صيني كلياو ييو، الذي شرح في مقابلة مع شهرية “بوكس” الفرنسية أنه يحلم بتقسيم الصين الى عشرين دولة، لأن ذلك هو الشرط الذي لا بد منه ليتمتع بعضها بالديمقراطية. يضيف ييو أن «من حق سكان بكين، إن أرادوا ذلك، المحافظة على النظام الشيوعي. سكان سي تشوان سيكونون فوضويين وسيختار أولئك الذين يقطنون يوان الديمقراطية وستتحول شنغهاي الى مرفأ تجاري يفرض تعريفات جمركية على سلع جميع هذه الدول الجديدة». ما أشبه هذه الحجج بتلك التي يوردها كشيشيان بالنسبة إلى لبنان: قسم وازن من اللبنانيين يختلف مع الخيارات السياسية لحزب الله، التي تفاقم الأزمة العامة التي يواجهها النظام. الحل الوحيد الذي لا بديل منه، بعد مئة عام من العيش المشترك، وهو عمر الكيان العتيد، هو التقسيم. هو يقر في مقاله بأن النخب السياسية التي تقاسمت السلطة منذ الاستقلال مسؤولة عن هذه الازمة، لكن السبيل الوحيد للخروج منها راهناً وعدم تكرار المآسي التي عرفها لبنان هو القبول بالفدرالية، التسمية المشفرة للتقسيم.
توقيت نشر هذا المقال ومكانه وصفة كاتبه تؤشر جميعها على أن تياراً في الولايات المتحدة، بدعم من السعودية، يعتبر أن الالتزام ببقاء لبنان ليس من الضروري أن يكون بين ثوابت بلاده، وأن تأييد الخيار التقسيمي ينسجم أكثر مع مصالحها.