حطم انفجار 4 أغسطس (آب) الماضي آثار رابطة هشة كانت تصل اللبنانيين بعضهم ببعض. تركز الخسائر البشرية والدمار في الأحياء المسيحية من العاصمة بيروت، عزَّز شعور سكانها بأنَّهم وقعوا ضحية خديعة جهَّزها لهم بعض منهم لإخضاع ما تبقى من وجود مسيحي في لبنان إلى سيطرة المسلمين؛ سيان كان هؤلاء سنة أم شيعة.
انهارت فجأة الدعاية التي أقنع قسم من المسيحيين أنفسهم بها منذ التفاهم الذي وقعه زعيم «التيار الوطني الحر» ميشال عون مع الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله في 2006. كانت المقولة السائدة أن التفاهم يشكل ضمانة أمنية للمسيحيين العائدين إلى مواقع السلطة بعد انسحاب القوات السورية قبل سنة وبعد فشل قوى «14 آذار» في استيعاب الظاهرة العونية؛ بل إظهار الرغبة في تطويقها والقضاء عليها من خلال ما عُرف بـ«الحلف الرباعي» بين «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«حزب الله» و«حركة أمل». رأى المسيحيون في هذا الحلف اتحاداً بين أحزاب مسلمة يرمي إلى تكريس التهميش الذي أصابهم منذ إخراج ميشال عون من بعبدا في 1990.
اقترح العونيون حلفاً مقابلاً مع أقوى مكونات خصمهم الرباعي؛ «حزب الله»، بحيث يوفرون له غطاء «وطنياً» يخرجه من عزلته الطائفية مقابل تعهد الحزب بتغطية كل طموحات «التيار» في تزعم المسيحيين أولاً؛ والوصول إلى رئاسة الجمهورية والتحكم بالحصة المسيحية من المناصب السياسية والإدارية. وهكذا كان، إلى أن راح الجمهور المسيحي يكتشف ضآلة الفائدة التي جناها من تولي ميشال عون رئاسة الجمهورية فيما جنت دائرة ضيقة من المحازبين والمنتفعين أرباحاً هائلة؛ مادية وغير مادية، من وجود عون في القصر الجمهوري.
السنوات الثلاث الأولى من عهد ميشال عون اتسمت بتقاسم للغنائم بين أطراف «التسوية الرئاسية» حيث وصل الفساد وسرقة المال العام والزبائنية والتناهب (بحسب المصطلح الذي اشتقه أحمد بيضون)، إلى مستويات لم يشهد لبنان نظيراً لها على مدى تاريخه. المسيحيون الذين لا تنطبق عليهم شروط الولاء الأعمى لرئيس «التيار الوطني» وصهر ميشال عون، رُمي بهم خارج جنة الدولة، فيما تصاعد دور الحليف الشيعي في المؤسسات الرسمية وفي تحديد سياسة لبنان الخارجية؛ وصولاً إلى إدراجه من قبل قادة «الحرس الثوري» الإيراني بين البلدان العربية التي يسيطرون عليها، وسط تدهور غير مسبوق في علاقات لبنان العربية والدولية التي كانت تشكل رأسمال لا يستهان به ضمن النموذج الاقتصادي – السياسي الذي نشأ في هذا البلد بعد استقلاله. نقد هذا النموذج وتبيان نواقصه ومثالبه لا يقعان ضمن اهتمامنا هنا.
فشلُ انتفاضة «17 أكتوبر (تشرين الأول)»، وتفجير مرفأ بيروت، وإسقاط المبادرة الفرنسية، وهي التطورات الثلاثة التي أدى فيها «حزب الله» دوراً محورياً حال دون وضع خطة لإنقاذ لبنان وإخراجه من الكارثة التي أوصلته إليها طبقة سياسية فاسدة وقاتلة، ناهيك بمناخ اليأس من أي إصلاح أو حتى ترميم للوضع القائم المنهار… أعطت جميعها مبرراً لبعض المسيحيين وغير المسيحيين للقول إنه بات من المستحيل الاستمرار بصيغة الحكم الحالية التي أخفقت في بناء دولة القانون والمواطن، وسلطت فئة مسلحة تتبنى برنامج عمل خارجياً، وإن الاندثار الجسدي بات وراء الباب بعدما أصيب اجتماع المسيحيين وثقافتهم بضربات قاضية. الحل، في تصور هؤلاء، هو إنشاء نظام فيدرالي واسع الصلاحيات تطمئن فيه الأقليات إلى أنها سيدة مصيرها وتمارس فيه حرياتها وثقافتها. وفي حال فشل هذا الاقتراح، فلا بد من تقسيم لبنان إلى كيانات مستقلة وذات سيادة يختار كل منها الطريق الفضلى التي يراها مناسبة للجماعة التي تتسيده.
ثمة مشكلتان في هذا التصور؛ فبالإضافة إلى أن الفيدرالية لا تعالج مشكلات السياسات الخارجية والدفاعية والمالية؛ بل تصر على بقائها ضمن سلطة الدولة الفيدرالية، لا يهتم أصحاب اقتراح التقسيم والفيدرالية كثيراً بشرح كيفية إدارة الكيانات المنفصلة أو المتحدة لحياتها السياسية الداخلية ورسم خططها المستقبلية وانتخاب قياداتها. المهم، وفق التصور المذكور، أن الكيانات هذه قد تخلصت من عبء «الآخر» المسلم؛ السني أو الشيعي، وربما يساعدها مخزونها الثقافي المميز (وهذا وهم آخر في عالم اليوم) في تحقيق ازدهار اقتصادي يشكل عودة إلى سنوات الرفاه الآفل.
لكن، للأسف، يصح سرد تاريخ الجماعات اللبنانية كسلسلة من الحروب داخل الطوائف وليس بين بعضها بعضاً فقط. منذ معركة عين دارة بين القيسيين واليمنيين وفي ظل زعامتين درزيتين سنة 1711، إلى الحرب الشيعية – الشيعية بين 1988 و1990، وبين مسيحيي «القوات اللبنانية» وجيش ميشال عون، كانت حروب الإخوة أشرس وأشد ضراوة من الحروب ضد الطوائف المعادية تقليدياً.
ولا ينفع هنا ليّ عنق التاريخ ولا اختراع استثناءات وأسباب تخفيفية لحقائق الاقتتال بين أبناء الطائفة الواحدة. ذلك أن الأسباب التي توجب التناحر بين الطوائف هي عين ما ينشئ ظروف الاحتراب بين أبناء الطائفة الواحدة: غياب آلية بناء الزعامة وتداول السلطة ضمن الجماعة المعنية وتوزيع الثروة. بكلمات ثانية؛ انعدام كل ما يجعل من الجماعة الطائفية أو المجتمع اللبناني كياناً ينتمي إلى الحداثة مقابل الوجود الطاغي لأشكال الطغيان الآسيوي أو القروسطي. فسواء اقتنع اللبنانيون بالتقسيم أو بالفيدرالية أم لم يقتنعوا، فستفرض الحقائق البسيطة للاجتماع السياسي نفسها عليهم: من يحكم، وكيف، ولماذا؟ وسيعاد إنتاج أسباب الصراع على مستوى كل طائفة وعشيرة على ما يجري في لحظة كتابة هذه السطور بين قبيلتين بقاعيتين لا تختلفان في الحسب ولا النسب ولا المذهب ولا على حب المقاومة…