بدا منذ اللحظة الاولى لاحتجاجات الثاني من آذار طغيان الجانب الحزبي عليها في شكل مغاير نوعا ما لمثيلتها في الفترة الاولى الجنينيّة لانتفاضة 17 تشرين، التي بدأت «مدنية» وسرعان ما ولجتها الاحزاب والتيارات السياسية التي كانت تشكل منظومة أركان الحكم بغض النظر عن المراحل الزمنية لاشتراكها في السلطة.
في الاحتجاجات الحالية تمكنت تلك الاحزاب هذه المرة من تسلم زمام المبادرة حتى ان بعضها كان من مطلقي حركة الاحتجاج. وفي ما يعرف بالمناطق الشرقية ساد
حزبا «القوات اللبنانية» و«الكتائب»، وهما أساس المعارضة المسيحية للعهد بشقيه الرئاسي والحزبي أي «التيار الوطني الحر»، وهو ما بدا واضحا ابتداء من منطقة الدورة مرورا بجل الديب والذوق وصولا الى جبيل، اضافة الى اماكن نفوذ الحزبين والمتعاطفين معهما كما في فرن الشباك وغيرها، وذلك في مظهر بدا صلبا ومنظما.
في المقابل حضر في الجانب الطائفي المقابل لاعبون تمكنوا من تحريك الشارع لكنهم لم يلجأوا الى الاستمرار فيه وقطع شرايين البلد.
ففي المناطق السنيّة كان «تيار المستقبل» سيد التحركات وهو أراد الضغط على العهد في لعبة كباش السلطة من دون الانخراط في شعارات طائفية وان حضر في الشارع ايضا لاعبون على هامش «المستقبل» وبعضهم ولج الحراك المدني واستثمره.
وهذا الحال ايضا في الشارع الشيعي حيث، برغم النفي الحزبي، حضر أنصار حركة «أمل» في بيروت على جسر الرينغ منذ اللحظات الاولى، وكان لافتا للانتباه الظهور الاحتجاجي في اماكن متعددة في الجنوب وخاصة في صور وطريق الجنوب – بيروت، بينما لجم «حزب الله» الحركة الاعتراضية في الضاحية الجنوبية حيث تعالت دعوات إنفعالية للتوجه الى قصر بعبدا وكان ظهور شبابه ملحوظاً على مفترقات الطرق.
وعلى الرغم من استياء الزعيم «الاشتراكي» وليد جنبلاط من العهد ومحاربته له، الا ان انصاره لم يتحركوا في شكل جدي، بل هو دعاهم الى عدم الانخراط في لعبة الشارع العنفية التي اتضحت دمويتها.
هيمنة الأحزاب شرقاً
هذا الواقع المغاير في مناطق النفوذ المسيحي لـ«القوات» و«الكتائب» بدا لكل من تجول في شارعهم ليتضح له ان حراك الشارع ليس سوى تحرك حزبي بدا معه مشهد الحراك المدني شبه منعدم. هناك ثمة تنظيم لشباب صغار والكثير منهم غير ضليع في السياسة، وصياغة للشعارات التي يحضر على رأسها سلاح «حزب الله» وإسقاط رئيس الجمهورية ميشال عون. يتوزع القادة، ملحوظي الهيئة والملبس والأداء، لتحديد طبيعة التحركات وزمانها ولإعطاء الضوء الاخضر لتقطيع اوصال مناطقهم ولكيفية التعامل مع القوى الامنية في حركة كر وفر. واذ كان الجيش قد فرض أمره أمس فتحا للطرقات، فإن الحال قد يعود وقد يستمر على المنوال السابق في أي لحظة.
على ان المفارقة في تلك التحركات انها استلهمت نشاطاتها من رمزية الكنيسة ودعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي الى الحياد واقامة مؤتمر دولي لحل الازمة اللبنانية. لكن الشعارات الحزبية التي صدحت في تلك الأمكنة ورغبات الجمهور الذي لم يتعد المئات في كامل المناطق، بدت خارجة عن رغبة بكركي التي لم تكن راضية عن العنف الذي جرى وقطع الطرقات ما ادى الى مقتل ثلاثة أشخاص بينهم عسكري، في الشمال.
ولعل الحدث الذي جرى أخيرا في بكركي يكتسب أهميته في انه هذّب الدعوات المتصاعدة في الشارع المسيحي التي استعادت تطرف اعتقد كثيرون انه بات من الماضي. وتتغذى الشعارات المتطرفة اليوم ومن بينها مطالبات الفيدرالية، من الكارثة التي يعيشها لبنان متعددة الأوجه، اقتصاديا واجتماعيا ومعيشيا وانسانيا، والتي اقتنصها البعض لرفع شعارات برزت خلال الحرب الاهلية. ومن المؤكد ان تلك الدعوات التي لا يخجل كثيرون من رفعها ستبقى في الشارع ووسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، طالما ان لا حل لأزمة باتت تشكل معضلة حكم في لبنان.
العودة إلى بدايات 17 تشرين
في 17 تشرين 2019، أرادت شرائح شعبية من اليمين واليسار ومن طوائف مختلفة نسبيا، التأسيس لحقبة جديدة من عمر الوطن قوامها رفض المنظومة الحاكمة التي كانت نتيجة حكمها وبالا على لبنان، لكن عابها عدم تقديم البديل سوى شعارات براقة تخاطب الأفئدة مثل الدولة المدنية والعدالة الاجتماعية وخاصة رفض الطائفية والمذهبية وتقديس الحرية والديموقراطية.
بدا ذلك وهماً في ظل شبه استحالة إسقاط نظام طائفي تأسس لبنان لأجله ويعود الى ما قبل ذلك التأسيس في العام 1920. لكن الحراك هذا وبعودته الى البدايات سيبدو الرد الأول على الدعوات الطائفية لدى أركان الحكم جميعا في المناطق كافة شرقية كانت أم غربية.
هنا بالذات تكمن اهمية صمود المجموعات المدنية وتوحيد جهودها لخرق النظام عبر عملية سياسية داخلية ستتخذ ربما عشرات السنوات. وفي الموازاة لا حل آنيّ خارج اتفاق الطائف الذي اوصل اللبنانيين الى تسوية للحكم. وعبر الطائف والمؤسسات الدستورية يعي الحراكيون الآليات التي سيخوضون غمار تغيير طبيعة النظام من خلالها، دون إشعار الطرف المسيحي الثائر اليوم بالغلبة عليه.
في المقابل، ثمة دور لرأي عقلاني سواء لدى مرجعية بكركي بما تختزنه من دور مؤسس للبنان وراع للوحدة فيه خلال أقسى مراحله، أو للمجموعات المدنية ومعهم كل من يرفض التقسيم. والدلو هنا لمجابهة ذلك التقسيم المنادى به تحت شعار الفدرالية وتحت عنوان اللامكزية الذي يراد تفسيره في إطار الرغبة في التقسيم من دون تفسير الطائف الذي دعا إلى اللامركزية لتسهيل عملية الحكم.
والمسؤولية هنا على هؤلاء لتطويق المحاولات المتسارعة لترسيم فعليّ لحدود الفيدراليات في لبنان، وهو ما سبق أن رأيناه بعد قليل من 17 تشرين لكنه اتخذ شكله الصارخ اليوم على الارض عبر التعبئة الحزبية لمناصري الفدرالية. ومن شأن مكافحة هذه الظاهرة قبل استفحالها ان يئد استجرار ماضي التقسيم واستجلاب الخارج ليقيم بين اللبنانيين. وبذلك ينطفىء دخان الاطارات المشتعلة المقسمة على اساس الجغرافيا الطائفية والمتحركة تحت شعار مطالب الناس المحقة التي اتخذها الحراك العفوي عنوانا في 17 تشرين.. ولا يزال.
وبذلك تتبدى مسؤولية الحراك المدني لإعلاء الصوت لتعود الشعارات مطلبية ومعيشية ترنو للعدالة الاجتماعية، في مقابل دعوات لا تزال ضعيفة، للتصويب نحو شعارات سياسية تقسم اللبنانيين لصالح الأمن الذاتي وتزيد الفجوة المتسعة أكثر فأكثر بينهم في زمن دقيق يراد منه اعادة رسم لخرائط في المنطقة.