إزاء تعملق خطاب التعصّب الدينيّ والطائفيّ الصادر عن معالي وزير الخارجيّة اللبنانيّة جبران باسيل، وبعد مضي أقل من ثلاث سنوات على عهد الرئيس ميشال عون، يمكن القول بأن العماد عون عاد الى لبنان، لأنه اعتبر أن هدفه الأول قد تحقق بخروج الجيش السوري من ربوعه، أمّا الأخطر من ذلك فإن كل تصرّفات رموز تياره والقيّمين عليه، تشير الى رغبتهم بالقضاء على اتفاقية الطائف. وتبيّن أن قائد الجيش الأسبق في بعبدا (1989 – 1990) العماد ميشال عون ما زال هو هو الرئيس ميشال عون اليوم في العام 2019 وما زال اتفاق الطائف يقض مضاجع العونيّين ويؤرقهم ويقلقهم.
لقد تمكن تيار العهد من استنهاض قواه، التي خوّلته إعادة شنّ الحرب على اتفاقية الطائف. بالنسبة للكثيرين من المراقبين والمحللين والنقاد، كانت دعوة العماد عون بتاريخ 21 حزيران 2015، الى بقية الفرقاء السياسيين الإختيار بين أمرين، إمّا تعديل الطائف أو الفيديراليّة، بمثابة صدمة لهم لأنهم كانوا قد اعتقدوا بأن الجنرال سيعود ليمارس السياسة بعقله لا بعاطفته، التي تحنّ الى عودة صيغة 1943، أو عودة جزء من قوتها الى كنف الرئاسة الأولى.
وما زاد الصدمة قوة كلامه في هذا النّهار الحزين القائل بانّ حقوق المسيحيّين خط أحمر، وسنستعيدها مهما كلف الأمر. من هنا نستنتج بأنّ خطابات الوزير باسيل، يمليها عليه فخامته. حتى اليوم قد يوقّع الرئيس على الموازنة وعلى المادة 80 منها، وقد يذهب هؤلاء الكادحين والمحرومين الى أعمالهم، بعدما عانوا الأمرَّين، جراء انتظار طويل زاخر بالملل والعصبيّة، لكن العونيّين سيستمرون في خوض معاركهم التي ستبقى ترفض إقرار المادة 95 من الدستور الناصّة على تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفيّة السياسيّة. وهنا سؤال موجّه إلى الشباب العوني، إذا كان الدستور المدني اللاطائفي، المولود من رحم تلك المادة هو من سيملي أوامره من على عرشه على رئيسي الجمهورية والحكومة والخالية من كل أوبئة وموبقات التعصب الديني والمذهبي، بعد أن تكون الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية قد تمكنت بوسائلها الخاصة، من تحرير النفوس من اسقام الطائفية والمناطقية، فأين الضرر في ذلك يا حضرة المحبطين والقانطين؟!
وبما أنّ التيار الوطني الحرّ ورئيسه ومؤسّسه المصرّ على عناده وعلى عدم تراجعه عن قناعاته النابعة من عاطفته لا من تحليله، فإن الطامة الكبرى ستكمن باستكمال ذلك التيار خوض المعارك من دون هوادة تحت عنوان، إمّا تعديل الطائف أو الفيديرالية، وذلك ابتداءً من موازنة 2020 أقلّه، لكن المقاومة في وجه هذا الخيار ستكون في غاية الضراوة، بدليل تسطير النائبان سمير الجسر واللواء جميل السيد ملحمةً بطولية من خلال موقفهما المشرفين الداعمين لاتفاق الطائف، ولإقرار المادة 80 من الدستور ودعوة الوزير باسيل الى التعقل لأنّ خطابه الطائفي ان استمرّ بالإستشراء والتفشّي أكثر، فإن ذلك سيؤدي الى ولادة أمورٍ سيئةٍ قد لا تحمد عقباها. وهنا لزامٌ عليّ أن أذكّر، بأن الفيديرالية لم تشكّل في أغلب الأحيان مادة كرهٍ للتيار الوطني الحرّ، بل على العكس فإنّ مبادئها لم تكن بعيدةٍ بتاتاً عن تفكيره، وقد تغزّل العونيّون مراراً بمفاتنها، وإنّ شعارات التيار العلمانيّة، لم تكن إلّا من قبيل خلق شعبيّة في الوسط السياسيّ الوطني والقومي والإسلامي، بدليل أنّ ما ورد في كتاب الرهان الممنوع لمؤلفه المرحوم الشيخ حبيب حرب والذي كان مقرّباً من العماد ميشال عون، يثبت أن الفيديرالية كانت تدغدغ مشاعر الجنرال وفريقه، فالمؤلف يذكر في كتابه، الصفحات 120 – 121 – 122، بأنه قام بزيارة لسليمان فرنجية الحفيد، بتاريخ 13 حزيران 1990، وطلب منه فتح جبهة الشمال لمساعدة جيش العماد عون، عبر تحرير قضاء جبيل من سيطرة القوات اللبنانية.
فما كان من فرنجية أن أجابه بلهجة عنيفة قائلاً له، صاحبك عون تقسيمي فيديرالي، لأنه رفض اتفاق الطائف، فليعلن فوراً تأييده للإتفاق لكي نمكّنه من الانتصار النهائي على جعجع، وأذكّرك بأن صاحبك كان قد سبق وأشرف على دراسة أعدّها وليد فارس «المستشار الحالي للرئيس ترامب»، والسيد روجيه عزام حول إمكانية إنجاح المشروع الفيديرالي في لبنان. ويذكر أن وليد فارس كان مستشاراً للدكتور سمير جعجع، وعندما وافق الأخير على اتفاق الطائف اختلف معه، وأعلن ولائه للعماد ميشال عون غداة بداية حرب الشرقيّتين، ومردّ كره وليد فارس لاتفاقية الطائف يعود الى إيمانه بفكرة قيام وطن قومي مسيحي منفصلاً عن المسلمين، وهذا الإيمان واردٌ في كتابه الشهير «الفكر المسيحي اللبناني الديمقراطي في وجه التعريب والتذويب» الذي أصدره عام 1982. أما بتاريخ 10 آذار 1994، فقد قال العماد عون من مقر إقامته في منطقة لاهوت ميزون الفرنسيّة، لصحيفة «الحياة»، أن الفيديرالية، هي الحل الوحيد للبنان، إذا لم يقبل المسلمون شكلاً علمانياً فوق الطائفيّة.
وقد استرسل عون في مدحه للفيديرالية، عندما قال للصحيفة عينها، بأن الفيديرالية ليست تقسيميّة بل وحدويّة! وأصلب من فيديرالية الطوائف التي كنّا نعيشها. لكن سؤال يطرح نفسه، لماذا رفض الجنرال الذي يتباهى بالعلمانيّة، منذ عودته الى لبنان، إقرار المادة 95 من الدستور الناصّة على تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية ولمَ أحجم نوابه عن التصويت على إقرارهم لتلك المادّة في العام 2010؟
إن الصراحة تقول بأن التيار الوطني لم يكن يوماً مع العلمانية ومع الدولة المدنية ومع إلغاء الطائفية السياسيّة، لأنه يعلم بأن المسيحيين الذين يشكّلون ثلث سكان لبنان، لن يتيح لهم النظام المدني اللاطائفي، الذي يُجلس المواطن اللبناني، في المكان المناسب، وفق كفاءته ونزاهة لا وفق مذهبه وطائفته، تحقيق المناصفة أو أكثر دوماً، عقب ظهور نتائج امتحانات الوظائف من الفئة الأولى الى الفئة الرابعة، في كل مرةٍ تجرى فيها.
وأذكر باللقاء العاصف الذي جمع العماد ميشال عون بالسفير البابوي بابلو بوانتي بتاريخ 27 تموز 1990 في القصر الجمهوري، إذ تقول كارول داغر في كتابها «جنرال ورهان» صفحة 251 – 252، بأن القاصد الرسولي قال للجنرال في بداية الاجتماع، أنني مكلّف أن أنقل رسالة عاجلة إليكم من قداسة البابا ومفادها، سلّم كل شيء للشرعيّة من أجل إنقاذ لبنان الذي نريده، السيادة والحرية والعيش المشترك. إنّ رحيلكم جنرال يستلزم شجاعة منكم، ذلك إن بقاءكم سيسرّع في هجرة المسيحيين لأن البلاد مهدّدة بالتقسيم والتفتيت. وعندها أجابه عون بعصبية شديدة قائلاً له، قل لقداسته، إذا كان هو رئيس الكاثوليك في العالم، فأنا رئيس المسيحيين في لبنان والشرق الأوسط، وهذا يعني أن عون كان متمسّكاً بشدّة بدستور 1943 وأنه كان شبه مقتنع بالحل الفيديرالي في لبنان.
أمّا القانون الأرثوذكسي الذي نادى به التيار الوطني الحرّ، فلم يكن سوى تكريس للبنان الفيديرالي وللدولة المسيحية فيه لأنّ عصب هذا القانون هو ثقافة الفرز والفصل بين اللبنانيّين انتخابياً. واليوم وبما أن التيار الوطني الحرّ يعلم أن أغلبية الأحزاب اللبنانية ترفض تعديل اتفاق الطائف، وتهدف الى إقرار المادة 95 من الدستور، وبمعارضته تلك الإرادة الجامعة فإنه يكون قد قرّر خوض معارك الظفر بالفيديرالية، وأرجو أن أكون مخطئاً في تحليلي. وعندما يقول العماد عون بتاريخ 21 حزيران 2015، بأن المسيحيين هم منارة الشرق وقد استولى الآخرون على حقوقهم بالترهيب أو الترغيب، أجيز لنفسي أن أقول له صحيح أن عاصمة الموضة والأزياء باريس قد منحت الطائفة المارونية كل الامتيازات السياسيّة، عن سابق تصوّر وتصميم وعن عمد لاضرام نيران الأحقاد بين مكونات الشعب اللبناني، لكن منطقياً، لم يكن يحق للعونيين لا اليوم ولا بالأمس، أن يغضبوا إذا اعترضت الطوائف الـ 17 الأخرى على تلك الهدية الفرنسية الهدّامة
ولم يكن يحق لهم اعتبار تلك الامتيازات حق حصري لطائفتهم بمفردها لأنها مقدّسات!! نعم لقد كان من حق الطوائف الأخرى الانتفاض على تلك المهزلة والمأساة الفرنسية التي تسببت بانفجار بركان الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1975، وكان من حقها أن تنقض وتنتصر على دستور فئوي أبى الاقتداء بمقولة أبو العلاء المعري، كذب الظنّ لا أمام سوى العقل.