في حمأة الاحتراب الأهلي عام 1977 والجسور مهدمة بين جناحي الوطن المدمّى بالبغضاء والدماء وحواجز الموت وقتل الهوية الوطنية بالقتل على الهوية الدينية، شغلت البلد اطروحة التقسيم والوطن البديل وشاعت الفكرة في مختلف الاوساط السياسية واضحت حديث الشارع والصالونات والبيوتات، غير أن قاضياً مرموقاً حينذاك وخلال جلسة حوارية جمعته بالمفكر اللبناني الدكتور شارل مالك في منزل صديق مشترك في عين الرمانة وبحضور نخب قضائية وسياسية توجه القاضي بسؤال للدكتور مالك، «لماذا يلهج اللبنانيون بالتقسيم وكأنه امر واقع او قدر لا مفر منه»، فأجاب المفكر الحصيف الذي وان اختلفت معه بالسياسة لجهة منطلقاته الفكرية والعقائدية، لا شك انه علامة مميزة على المستوى المحلي والدولي لمساهماته الجلى في المحافل والمؤسسات الدولية والعربية وجاء جواب مالك على النحو التالي: «اذا شاهدتم العراق مقسماً حينها ضعوا ايديكم على قلوبكم فلبنان في مهب التقسيم».. وكان جواباً برد الى حد كبير الجو التقسيمي المحموم وترك املاً بأن البلد سيعاد تركيبه يوماً ما بالرغم من ضراوة المعارك وحدة الانقسامات وفعلاً تجاوز لبنان تلك المحنة الطويلة على مدى 15 عاماً ليخرج الطائف المتحاربون من الخنادق الى محطة اقر الجميع انها احتوت السلاح الميليشياوي واطفأت نيران المدافع وألغت خطوط الفصل والعزل بين اللبنانيين، ليحضر الطائف بصيغة قوّضت النفوذ الماروني في السلطة عبر «تشذيب صلاحياته» لصالح الحكومة مجتمعة معززة ما يسمى بالسنية السياسية.
تعليقات كثيرة تناولت الدور المسيحي في السلطة المستحدثة من خلال الدستور الجديد حتى ان البعض ذهب للقول ان الطائف ما كان لولا ورشة الافناء الذاتي التي خاضها المسيحيون فهزلت قوتهم المادية وحضورهم السياسي وتلك الحرب المدمّرة بين الجيش والقوات آنذاك حولت المناطق المسيحية الى حطام بتدبير ممنهج تولاه حسب مرجع مطلع «غازي كنعان» الذي ثبت لاحقاً تآمره على النظام السوري ودوره الفعال مع الاميركيين والفرنسيين في تحجيم العماد ميشال عون واخراجه مهزوماً وايصال المسيحيين الى الطائف مهيضي الجناح مجردين من كل اسلحة القوة المادية والمعنوية..»
ويقول مرجع مسيحي التقى مؤخراً سفير دولة معنية بالشأن اللبناني من زاوية دينية وتحدث السفير صراحة عن ان مداولات سفراء الاتحاد الاوروبي في الاسابيع الماضية تناولت الشأن اللبناني بالعمق وخلص السفراء الى قناعة ا ن اعطاباً جذرية اصابت بنية النظام اللبناني وتحتاج الى اصلاحات سريعة بفعل تراجع الدور المسيحي مع تقدم الطائف «لحال الشيخوخة» بفعل عدم قدرة التسوية المعمول بها منذ العام 1990 على اعطاء ضمانات للمسيحيين تجذر وجودهم بدل تهجيرهم طوعاً بإرادة ذاتية لشعورهم بالغبن والخوف على الوجود والدور المفقود، وتحول مركز رئاسة الجمهورية الى نقطة جذب محلية واقليمية امعنت في تقسيم المسيحيين واللعب على تناقضاتهم وتحويل ممثليهم الى اقل من مستوى الشراكة ومجرد موظفين في الشركات الطائفية الأخرى..
ويقول المرجع المسيحي: الدولة اللبنانية مفدرلة ولو بصورة ضمنية حيث تتقاسم الجماعات الدينية السلطة بما يسمى الفدرالية الشخصية التي تشمل الجماعات دون الجغرافيا التي تأخذها حيزاً حياتياً. فكل طائفة كيان قائم بذاته اجتماعياً سياسياً يرث الدولة وما فيها من حصص ومغانم…
ويتابع المرجع المسيحي: عود على بدء لقد مضى على كلام شارل مالك ثلاثة عقود ونيف واذ بالعراق يقسم وتكشف لأول مرة الولايات المتحدة عن سياساتها المضمرة وتزيل الطلاء عن اللون الحقيقي لمشروعها في المنطقة من خلال مشروع الكونغرس الاميركي الصهيوني الهوى بتسليح الاكراد والسنة في العراق فتستحضر اذ ذاك كل المقولات والافعال الاميركية التي أشاح العرب ببصرهم عنها كالنعامة من الفوضى الخلاقة الى الشرق الاوسط الجديد تحت لافتة الربيع العربي الى صدور قانون القومية في دولة الكيان الصهيوني ومراميه العنصرية التي قد تفضي الى طرد العرب من اراضي الـ48 في أكبر وأخطر عملية ترانسفير لتوكيد يهودية الدولة والتحريض على قيام مثيلاتها بعد الصدام الكبير بين المذاهب واخراج المسيحيين من الشرق الذي بدأ فعلياً مع الغزو الاميركي للعراق واستتبع بموجات القتل والتهجير على يد التكفيريين المصنعين في أروقة الاستخبارات العالمية لخدمة مشروع تدمير العالمين العربي والاسلامي بالفتنة المذهبية واسقاط الحدود وبدء تجذير الدول بسكين المذهبية وأولى اطلالة المشروع التفتيتي بدأت مع اجتياح «داعش» للحدود العراقية – السورية لجهة الشمال كاشارة أولية لسقوط سايكس بيكو التي باتت «دقة قديمة» ولم يعد أمام المسيحيين سوى إما الهجرة القريبة أي اللجوء الى لبنان كحاضنة تبقيهم قريبين من جذورهم وإما الهجرة البعيدة اي الجلاء الكلي عن هذه البلاد لانعدام الأمان وسقوط المحرمات ولا يبدو ان المسيحيين اذا ما لجأوا لبلد الارز سيكونون بمأمن في المستقبل القريب والبعيد خاصة وان توطين مليون سوري في لبنان الى جانب 500 الف فلسطيني غرضه كسر التوازن مع الشيعة ومنع المسيحيين الذين تكتلوا في لبنان من التحول الى كتلة نافذة ووازنة، اللهم اذا ما ارتضى المسيحيون اللجوء الى لبنان وتوظيف السوريين في لبنان امر مفروغ منه وتموضع 400 الف نازح سوري في البقاع الاوسط ليس من قبيل الصدفة الى جانب الالاف في البقاع الغربي والغرض ايجاد مربع سني يفصل بعلبك – الهرمل عن الجنوب وهذه ستكون الخطة الثانية البديلة بعد فشل مشروع القلمون – عرسال الذي بدأ يتهاوى منذ اسبوع تقريباً تحت وطأة هجوم الجيش السوري والمقاومة.
ويتابع المرجع: الأميركيون دون خجل أطلقوا قطار الفدرلة او بالاحرى المشروع الصهيوني دخل الحيز الاجرائي لتقطيع المنطقة العربية وخاصة المشرق العربي الذي يشكل التهديد المباشر للكيان الصهيوني بعدما أثبتت المقاومة التي تنكبها حزب الله انها قادرة على تهديد وجود «الدولة العبرية» واطعامها الهزائم المتكررة منذ العام 2000 ازاء عجز كبير لقوتها وجبروتها العسكري وحتى الآن الذي يعطل المشروع صمود الجيش السوري الاسطوري وشراكة المقاومة للسوريين في معركة مصير سوريا الموحدة ولبنان الموحد لأن سقوط سوريا يعني سقوط لبنان وتقسيم سوريا بعد العراق حتماً يعني تقسيم لبنان وكل كلام خلاف ذلك «ثقافة النعامة» وهنا يتابع المرجع: لا بد من تحصين لبنان لأنها الفرصة الأخيرة المتبقية فالنفاق السياسي والفجور السلطوي والتسلط على حقوق المسيحيين لن يجدي سوى منافع آنية يلحسون المبرد ويتلذذون بدمائهم ظناً من البعض انه يتفرج شامتاً او مستهتراً بحال المسيحيين الطامحين لشراكة حقيقية وليس «معاون شوفور بوسطة» يفتح ويقفل ابواب الحافلة الطائفية، هذا الامر لن يستمر او يستقيم الا باعادة النظر باتفاق الطائف الذي بات اسقاطه مسألة وقت ونضال فعلي وهاجس حقيقي لدى المسيحيين وما يقال في اوساطهم في السر اكثر مما يقال في العلن، فاما الشراكة الحقيقية القائمة على الحقوق والتمثيل الصحيح واما البحث عن صيغة تحفظ الكرامات وترفع الاهانة والبلطجة عن المسيحيين تحت شعار «العيب المشترك».
ويتابع المرجع: اما عاصفة الفدرلة القادمة الينا على صهوة السكين ليس امام اللبنانيين سوى ابتداع توليفة وطنية تعيد تركيب البلد وفق معايير مختلفة وهذا لن يتم الا باعتماد قانون انتخاب ولعل «الارثوذكسي» الذي نفرنا منه بداية ولكننا اليوم نسمع اصواتا حتى تلك المخالفة له في البدايات تقول بالعودة اليه كخيار استراتيجي لانقاذ البلد، فالدائرة الواحدة والنسبية داخل الطوائف على قاعدة كل طائفة تنتخب نوابها فيرشح عن ذلك اكثريات واقليات داخل الطوائف فتكسر الاحادية داخل الطوائف وتتمثل كل الناس ويظهر تلوينة تحالفية بعد ذلك من هنا وهناك قادرة على دمج البلد في اطار وطني يشعر فيه الجميع انه بحاجة للجميع وتصاغ التكتلات بما يتعدى المذهبية والطائفية وعندها نصنع للبنان درعا واقيا من كتل سياسية ذات تمثيل حقيقي ومتنوع ونمنع اختراق البلد او دفع فريق او اكثر تحت وطأة الغبن بالبحث عن صيغ تتماشى والسائدة في المنطقة او ما تسعى اليه القوى العالمية التي اطلقت خيول الفدرلة في مرمح العرب والسباق القائم الآن بين من يصوغ استقلاله الفئوي على رقعة الشطرنج، فهذه الخطوة بالتوازي مع المقاومة وثقافتها الوحدوية ودورها الطليعي في محاربة المشروع الصهيوني – التكفيري ناهيك عن صمود الجيش السوري الذي يشكل استمراره كوحدة قتالية احد اعمدة المشروع العروبي الوحدوي في وجه التقسيم، هو الذي سيدفع عن بلادنا شر التقسيم وخلاف ذلك استجرار للمشروع التقسيمي بدافع الصلف والعنجهية والاستلشاق بالمسيحيين وعدم اعطائهم الحق باختيار الاقوياء في صفوفهم ألم يع العرب بعد ان ثمن الهولوكوست كان قيام دولة لليهود على ارض العرب وان الذبح الذي يطال الاقليات سيكون ثمنه كيانات خاصة ومحميات يرى فيها الغرب خلاصاً لهذا الشرق من امراضه ومشاكله المزمنة وفي الوقت عينه حماية مجانية «للدولة اليهودية» القلقة على وجودها بعد تشتيت الكيانات التي عاشت وهم التخلص من الانظمة لينفجر في وجهها لغم التقسيم اي الوجه الحقيقي للربيع العربي فلنتبصر قليلا ولنر بعين العقل ماذا جرى في العراق بعدما حل الحاكم العسكري بول بريمر الجيش العراقي لصالح استنبات جيوش المذاهب والاعراق لقد كشف سر استهداف الجيوش العربية النظامية في العراق وليبيا وتونس وسوريا ولبنان ومصر وبانت الحقائق والمشهد يشهد على حال الامة او بقاياها المشتتة او قيد التشتيت… والآتي اعظم…».