IMLebanon

هل تشكِّل الفيدرالية حلاً للأزمة اللبنانية؟

 

البحث عن طبيعة النظام السياسي الأفضل للبنان ملهاة كبرى ومضيعة للوقت، لأنّ المشكلة لم تكن يوماً في النظام السياسي، إنما كانت دوماً في غياب التوافق بين اللبنانيين على دور لبنان وحصرية السلاح ونهائية الكيان والحياد.

 

ما أهمية الفيدرالية إذا لم تكن قادرة على معالجة مسألة سلاح «حزب الله» ودوره؟ ولو سلّمنا جدلاً بأنّ جميع المكونات اللبنانية توافقت على الفيدرالية ومن ضمنها «حزب الله» طبعاً، فهل يسلِّم سلاحه إلى الدولة المركزية ويتخلّى عن دوره الإقليمي؟ بالتأكيد كلا. وبالتالي، ما نفع الفيدرالية او غيرها طالما انّ الدولة فاقدة لقرارها، ولا اتفاق بين اللبنانيين على الأساسيات التي تُعتبر من البديهيات في كل أنحاء العالم؟ وهل يمكن تطبيق الفيدرالية أساساً من دون موافقة جميع الأطراف؟

 

فلا حلّ للأزمة اللبنانية المفتوحة منذ أكثر من خمسة عقود، لا عن طريق الفيدرالية ولا اي نظام سياسي آخر. إذ، لو كانت أزمة نظام لكانت حُلّت مع اتفاق الطائف، او كانت حُلّت بالاتفاق على نظام بديل عن الطائف. ولكن الطرف الذي يحول دون قيام الدولة لا يريد تطبيق الدستور الحالي، ولا الالتزام بدستور جديد، إنما يسعى الى إبقاء الأمور على ما هي عليه، لأنّ المشكلة معه ليست من طبيعة لبنانية، إنما مع دوره الخارجي العسكري والأمني والسياسي، هذا الدور الذي لا يستطيع التخلّي عنه كونه يشكّل جزءاً من عقيدته وقناعاته وأيديولوجيته الإسلامية التي لا تعترف بحدود ولا كيانات.

 

فالفيدرالية او اي نظام سياسي آخر يستدعي وجود دولة، فيما عقيدة «حزب الله» لا تستطيع تقبُّل وجود دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنّ الدولة التي يريدها صورية فقط لا غير، وينحصر دورها بالمسائل التي إما يتعذّر عليه القيام بها كالتواصل مع الخارج، وإما لا يهمّه القيام بها على غرار الأمور الإدارية والإنمائية، ولكنه بالتأكيد لا يريد الوصول إلى تسوية لحلّ الأزمة اللبنانية، لأنّ أي تسوية من هذا القبيل تستدعي منه مراجعة دوره وسلاحه، فيما هو ليس في هذا الوارد.

 

فلو كان الحزب يبحث فعلاً عن تسوية لكان أعلن عن مطالبه داخل النظام السياسي على غرار «الحركة الوطنية» عشية الحرب اللبنانية وإبّانها، الأمر الذي لم يحصل. وعندما طرح المؤتمر التأسيسي اكتفى بالعنوان من دون الدخول في تفاصيل مطالبه. واي تسوية يبحث عنها تتناقض حكماً مع وجود الدولة، لأنّه سيرفض بحجج مختلفة تسليم سلاحه والتخلّي عن دوره، وبالتالي لا يريد الحزب تسوية، تجنباً للوصول إلى دولة، فيما اي تسوية لا تُفضي إلى دولة فعلية لا قيمة لها.

 

فما قيمة الكلام إذاً عن الفيدرالية التي يرفضها «حزب الله» وغير القابلة للتطبيق في حال لم يبدِّل في مشروعه، من مشروع الدولة الإسلامية، إلى مشروع الدولة اللبنانية، ولو استُنسخ أفضل نظام في العالم لن يكون في مقدوره ترسيخ الاستقرار عن طريق تسوية تُفضي إلى اتفاق حول نهائية لبنان وحياده واحتكار الدولة فيه للسلاح. فأي تسوية لا تحقِّق هذه الثلاثية لن تكون قابلة للحياة.

 

وقد تكون الفيدرالية النظام الأمثل للبنان، ولكن ما النفع طالما انّها مرفوضة من قِبل «حزب الله» ومعظم القوى الإسلامية التي شيطنتها وصورتها على غير حقيقتها بأنّها تعني التقسيم، ما يعني انّ العائق أمام الفيدرالية يتعلق بالحزب الرافض لكل منطق الدولة من جهة، ويرتبط بالقوى السنّية التي تنظر إليها كمشروع تفتيتي للأمة الإسلامية من جهة أخرى.

 

وقبل البحث عن النظام الأمثل للبنان، لأنّ هذا النقاش سابق لأوانه ومن دون جدوى سياسية، فإنّ المدخل لحلّ الأزمة اللبنانية لا يبدأ بالنظام، إنما من خلال – التوصُّل إلى تفاهم او فرض أمر واقع كالآتي:

 

التوصل إلى اتفاق مع «حزب الله» يتخلّى بموجبه عن دوره وسلاحه، الأمر غير القابل للتحقق، لأنّ القرار في هذا الشأن بيد طهران مباشرة، ولأنّ علّة وجود الحزب ترتكز على سلاحه كوسيلة لترجمة او تحقيق عقيدته الدينية، وبالتالي لن يكون في وارد التخلّي طوعاً وإرادياً عن سلاحه ودوره.

 

– التوصل إلى تسوية أميركية-إيرانية تشمل إعادة النظر بالدور الإيراني في المنطقة، فتطلب طهران من الحزب تسليم سلاحه والتخلّي عن دوره، ولكن لا مؤشرات لغاية اللحظة الى انّ التفاهم حول النووي سيفضي إلى تفاهم حول الدور، ما يعني انّ الأزمة طويلة جداً. فضلاً عن انّ طهران لن تتخلّى بهذه السهولة عن أدوارها في المنطقة وتحديداً دور «حزب الله» الذي تعتبره أوّل وأفضل نموذج لثورتها الدينية، وهذا عدا عن دوره في إدخالها على خط الصراع مع إسرائيل، والإمساك بالورقة اللبنانية، والدخول على الخط السوري.

 

– التوصل إلى فرض أمر واقع على الأرض، على غرار ما كان عليه الوضع إبّان الحرب اللبنانية، وعلى قاعدة رفض ان يحكم «حزب الله» لبنان فيحكم كل طرف نفسه، فيتمّ إسقاط ستاتيكو الإمساك بقرار الدولة الذي أُرسي في العام 1990، والعودة بالوضع إلى ما قبل هذا التاريخ. ولكن هذا السيناريو لا يحقق الهدف المنشود بإقامة دولة، بل يؤدي إلى إسقاط آخر حلقة من حلقات هذه الدولة، إلّا انّه يفتح باب التسوية في الوقت المناسب، من منطلق انّ جميع القوى متساوية بترسيم حدود مناطقها ونفوذها، من أجل التنازل نحو مساحة مشتركة، وذلك خلافاً لواقع الحال الذي يُمسك فيه الحزب بورقة الدولة والسلاح والحدود.

 

ولكن هذا السيناريو مستبعد كلياً في ظلّ رفض القوى الأساسية إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل انتهاء الحرب اللبنانية.

 

ويبقى السيناريو الأخير، وهو ان تُهزم طهران بفعل حرب عسكرية، او ان ترضخ لشروط أميركية، او ان ينزلق لبنان إلى فوضى بسبب أوضاعه المالية، فتسقط الدولة وينشأ عن هذه الفوضى من دون تخطيط مسبق، إنما بشكل عفوي وتلقائي، ينشأ عنها مناطق نفوذ شبيهة بالتي كانت عليه في زمن الحرب، فتدخل البلاد في ستاتيكو جديد بانتظار تسوية جديدة، ولكن لا مؤشرات إلى حرب أميركية على طهران ولا إلى رضوخها، فيما سيناريو الفوضى في حال لم تُعالج الأزمة المالية غير مستبعد، ولكن يتمّ العمل دولياً على تدعيم الجيش اللبناني لاستبعاد هذا الاحتمال.

 

فالبحث عن اي نظام سياسي يستدعي التوافق بين اللبنانيين عليه، ولا يكفي طرحه من قِبل فريق او مجموعات سياسية. وقد يقول قائل، انّ طرح الفيدرالية مفيد من أجل خلع ثوب الشيطنة عنه وتمهيد الأرضية المؤاتية له. ولكن عود على بدء الأزمة اللبنانية ليست متأتية من طبيعة النظام السياسي، حيث انّ الخلاف مع «حزب الله» اليوم ليس على الفيدرالية، بل على دوره وسلاحه ونظرته للبنان، وذلك تماماً على غرار ما كان عليه الوضع عشية الحرب اللبنانية، على رغم مطالبة فئة محدّدة بالإصلاحات، وهذا حقها تحقيقاً للشراكة. إنما الخلاف الذي أوصل إلى الحرب لم يكن بسبب عدم إقرار هذه الإصلاحات، إنما بسبب الإنجراف وراء القضية الفلسطينية على حساب القضية اللبنانية.

 

ويجب الإقرار أخيراً، بأنّ اتفاق اللبنانيين على معنى وجود لبنان ودوره وحياده، شكّل الاستثناء لا القاعدة التي شكّلت انقسامهم الدائم على الخيارات الكبرى، من إعلان لبنان الكبير والاستقلال، إلى ثورة العام 1958 وتأييد السلاح الفلسطيني، وصولاً إلى التسليم بالاحتلال السوري وتأييد سلاح «حزب الله»، وبالتالي لا حلّ للأزمة اللبنانية عن طريق البحث عن نظام سياسي، في وقت انّ الحزب مثلاً يتمسّك بسلاحه ودوره، إنما المدخل للحلّ يكون عن طريق فرض ميزان قوى خارجي او داخلي، يفتح الباب لتسوية متوازنة، وكل ما هو خلاف ذلك مضيعة للوقت. لأنّه، كيف يمكن لنظام سياسي ان يوفِّق بين فئات منقسمة حول خيارات وجودية وعقائدية وسياسية؟

 

والهدف من اي نظام سياسي إرساء الاستقرار والسلام، فيما لا الفيدرالية ولا اي نظام سياسي آخر قادر على إرساء هذا الاستقرار، في ظل الخلاف العميق بين اللبنانيين حول ثقافتين: ثقافة السلام وثقافة الحرب. ويستحيل ان يعرف لبنان الاستقرار يوماً قبل وصول كل فئاته إلى رؤية مشتركة لفلسفة الوجود ودور الإنسان وأهمية السلام والاستقرار ونبذ العنف والحرب.

 

وبالتالي، لكل هذه الأسباب، سيبقى لبنان دولة فاشلة غير قابل للحياة بفيدرالية او من دونها، حتى وصول جميع اللبنانيين إلى قناعة بأن لا أولوية تعلو على رفاهية الإنسان وعشقه للحياة.